أصبحت إسرائيل عالقة في ورطة خطيرة٬ فمواطنوها منقسمون بشدة، ومن غير المرجح أن يتحسن هذا الوضع٬ فهي غارقة في حرب لا يمكن الانتصار فيها بغزة، وجيشها يظهر علامات التوتر والانهيار مع طول أمد الحرب٬ واحتمالات اتساع نطاقها مع حزب الله أو إيران. وفي الوقت نفسه٬ يعاني الاقتصاد الإسرائيلي بشدة، وذكرت صحيفة تايمز أوف إسرائيل مؤخراً أن 60 ألف شركة قد تغلق أبوابها هذا العام في إسرائيل.
ويقول ستيفن والت٬ الكاتب في “فورين بوليسي” وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد٬ الذي وصف إسرائيل والمشروع الصهيوني بأنه يسير نحو الانحدار٬ إن سلوك إسرائيل في حربها على غزة ألحق ضرراً خطيراً وغير مسبوق بصورتها العالمية، وأصبحت دولة منبوذة بطرق لم تكن متخيلة في السابق.
فبعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تلقت إسرائيل تدفقا كبيرا من التعاطف من الغربي وبعض دول العالم الأخرى٬ لكن بعد أكثر من عشرة أشهر، أهدرت حملة الإبادة الجماعية التي تشنها ضد الفلسطينيين في غزة٬ وإطلاقها العنان لعنف المستوطنين في الضفة الغربية٬ أي تعاطف حصلت عليه في بداية الحرب.
وتقدم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بطلب إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؛ وأصدرت محكمة العدل الدولية نتائج أولية تصف تصرفات إسرائيل بأنها إبادة جماعية في طبيعتها ونيتها، وأعلنت المحكمة أخيراً أن احتلال إسرائيل واستعمارها للأراضي الفلسطينية يشكل انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي.
التآكل في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي يقود المشروع الصهيوني نحو الانحدار
ويقول ستيفن والت إن “المدافعين عن الصهيونية الأكثر حرصاً٬ لا يمكنهم عدم الالتفات إلى ما يحدث في غزة٬ حيث شعروا بالانزعاج الشديد، إن لم يكن بالرعب مما يحصل”. ويضيف أن الدعم في الولايات المتحدة لأفعال إسرائيل آخذ في الانحدار بشكل حاد، ويعارض الأميركيون الأصغر سناً (بما في ذلك العديد من اليهود الأميركيين الأصغر سناً) رد إدارة بايدن على ما تفعله إسرائيل.
ويضيف والت٬ أنه المغري إلقاء اللوم في كل هذه المشاكل على نتنياهو، وهو يستحق بالتأكيد الانتقادات التي تلقاها في الداخل والخارج. لكن إلقاء اللوم كله عليه يتجاهل مشكلة أعمق: التآكل التدريجي في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي على مدى السنوات الخمسين الماضية. حيث إن إنجازات إسرائيل وبراعتها التكتيكية خلال العقدين الأولين من عمرها تميل إلى إخفاء مدى مساعدة الخيارات الاستراتيجية الرئيسية التي اتخذتها إسرائيل منذ عام 1967 في تقويض أمنها.
ويقول الكاتب: كان الصهاينة الأوائل والجيل الأول من زعماء إسرائيل من ذوي الدهاء الاستراتيجي. فقد حاولوا تحقيق شيء بدا مستحيلاً تقريباً: إقامة دولة يهودية في وسط العالم العربي، على الرغم من أن عدد السكان اليهود في فلسطين في عام 1900 كان ضئيلاً جداً وكانوا لا يزالون يشكلون أقلية عندما تأسست إسرائيل في عام 1948.
وقد نجح المؤسسون لإسرائيل في استغلال الفرص٬ وبنوا قوات شبه عسكرية مثل العصابات الصهيونية التي تحولت لجيش يمتلك قوة جوية، وعملوا بجد لكسب دعم القوى العالمية المهيمنة مثل أمريكا وأوروبا. ومن الجدير بالذكر، أن الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة أيدا خطة التقسيم التي أقرتها الأمم المتحدة في عام 1947، واعترفا بإسرائيل بعد فترة وجيزة من تأسيسها. وكان ديفيد بن جوريون وزملاؤه من زعماء الصهاينة على استعداد لقبول الترتيبات التي لم تحقق أهدافهم الطويلة الأجل، مؤقتاً على الأقل، شريطة أن تقربهم الاتفاقية من أهدافهم النهائية.
يقول الكاتب أنه بعد تحقيق الدولة، عملت الحكومة بجد على حشد الدعم الدولي من خلال الدعاية المتواصلة وإقامة تحالفات عمل مع فرنسا وجنوب أفريقيا وعدة دول أخرى. والأمر الأكثر أهمية هو أنها أقامت “علاقة خاصة” مع الولايات المتحدة، تستند في المقام الأول إلى القوة المتنامية ونفوذ اللوبي الإسرائيلي داخل أروقة السياسية الأمريكية.
وأدرك قادة إسرائيل الأوائل أن الدولة الصغيرة المحاطة بقوى عربية معادية يجب أن تحسب بعناية وتبذل قصارى جهدها لكسب الدعم الدولي. كما ساعدت الدبلوماسية والقدر غير البسيط من الخداع٬ إسرائيل على تطوير ترسانة سرية من الأسلحة النووية وإخفاء الحقائق القاسية لتأسيس إسرائيل، والتي لم تصبح معروفة على نطاق واسع حتى كشفها لبيني موريس وإيلان بابي وأفي شلايم وسيمها فلابان وغيرهم من المؤرخين الجدد في الثمانينيات٬ الذي كشفوا حقيقة إسرائيل كمشروع إحلالي ارتكب العديد من الفظاعات لبناء الدولة.
وقد ارتكب زعماء إسرائيل الأوائل الأخطاء تهدد الدولة٬ حيث تواطأ بن جوريون مع بريطانيا العظمى وفرنسا لمهاجمة مصر في أزمة السويس عام 1956 ثم اقترح أن إسرائيل قد لا تسحب قواتها. ولكنه سرعان ما تخلى عن هذا الموقف عندما أوضحت إدارة أيزنهاور أنها لن تتسامح مع مثل هذا التوسع غير المبرر. ولكن في المجمل، كانت “البراعة الاستراتيجية” للدولة الصهيونية في أيامها الأولى مثيرة وخاصة عند مقارنتها بخصومها.
نقطة التحول التي ستقود لاحقاً للغطرسة ثم الانحدار
كانت نقطة التحول هي الانتصار الذي حققته إسرائيل في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967. ولم تكن النتيجة معجزة كما بدت في ذلك الوقت (من بين أمور أخرى، تنبأت الاستخبارات الأميركية بأن إسرائيل سوف تفوز بسهولة)، ولكن سرعة ونطاق هذا الانتصار فاجأ الكثيرين وساعد في تعزيز الشعور بالغطرسة الذي قوض الحكم الاستراتيجي الإسرائيلي منذ ذلك الحين.
وكان الخطأ الرئيسي، كما زعم علماء إسرائيل مراراً وتكراراً، هو القرار بالاحتفاظ بالضفة الغربية وغزة واحتلالهما واستعمارهما تدريجياً وتوسيع خارطة إسرائيل، كجزء من جهد طويل الأمد لإنشاء “إسرائيل الكبرى”. وسعى بن جوريون وأتباعه إلى تقليص عدد الفلسطينيين داخل الدولة الجديدة، لكن الاحتفاظ بالضفة الغربية وغزة يعني أن إسرائيل ستسيطر الآن على عدد سكان فلسطينيين يتزايد بسرعة، وكان عددهم يقارب عدد سكان المستوطنين الإسرائيليين.
وقد خلق هذا الاحتلال الناتج، توتراً لا مفر منه بين الطابع اليهودي لإسرائيل ونظامها الديمقراطي الغربي: فلا يمكن أن تظل دولة يهودية إلا من خلال قمع الفلسطينيين وإنشاء نظام فصل عنصري، في عصر حيث كان مثل هذا النظام السياسي لعنة على أعداد متزايدة من الناس في جميع أنحاء العالم. وأصبحت إسرائيل تتعامل مع هذه المشكلة من خلال المزيد من التطهير العرقي أو الإبادة الجماعية، وكليهما جرائم ضد الإنسانية لا يمكن لأي صديق حقيقي لإسرائيل أن يؤيدها أو يتحملها٬ كما يقول الكاتب الأمريكي.
ولكن سرعان ما أعقب القرار بإقامة دولة إسرائيل الكبرى أخطاء أخرى. فقد أغفل القادة الإسرائيليون (ونظراؤهم الأميركيون، بما في ذلك هنري كيسنجر) الإشارات التي كانت تشير إلى استعداد الرئيس المصري أنور السادات لإحلال السلام في مقابل استعادة شبه جزيرة سيناء التي احتلتها إسرائيل في عام 1967. فضلاً عن ذلك، افترضت الاستخبارات الإسرائيلية خطأً أن الجيش المصري كان أضعف من أن يتحدى قوات الدفاع الإسرائيلية في سيناء، وبالتالي فقد ردعها ذلك عن خوض الحرب. وكانت نتيجة هذا الحكم الخاطئ حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973. انتكاسة إسرائيل الأولى٬ وكانت تكاليف الحرب، إلى جانب الضغوط من جانب الولايات المتحدة، سبباً في إقناع القادة الإسرائيليين بالبدء في مفاوضات جادة للتخلي عن سيناء.
وأدى هذا التحول في نهاية المطاف إلى زيارة السادات التاريخية إلى القدس، واتفاقية كامب ديفيد، وتوقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية اللاحقة٬ ولكن لسوء الحظ، وبسبب التزام رئيس الوزراء آنذاك مناحيم بيغن العميق بهدف إقامة دولة إسرائيل الكبرى وعدم رغبته في إنهاء الاحتلال، فقد أضاع هذه الفرصة لمعالجة القضية الفلسطينية مرة واحدة وإلى الأبد وغرقت إسرائيل في مزيد من الوحل.
الجهود المتكررة “لجز العشب” لم تضع حداً للمقاومة الفلسطينية
يقول ستيفين والت٬ كانت العلامة الواضحة التالية على تآكل الحكم الاستراتيجي الإسرائيلي هي الغزو المشؤوم للبنان في عام 1982. وكان الغزو نجاحاً عسكرياً قصير الأمد، ولكنه أدى إلى احتلال جيش الدفاع الإسرائيلي لجنوب لبنان، الأمر الذي أدى بدوره بشكل مباشر إلى إنشاء حزب الله، الذي أجبرت مقاومته المتزايدة القوة إسرائيل في النهاية على الانسحاب من لبنان في عام 2000. ولم يوقف إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان المقاومة الفلسطينية: بل إنه مهد الطريق للانتفاضة الأولى في عام 1987، وهي إشارة واضحة أخرى إلى أن الفلسطينيين لن يتركوا وطنهم أو يخضعوا للخضوع الإسرائيلي الدائم.
ورغم أن القادة الإسرائيليين بعيدي النظر أدركوا أن القضية الفلسطينية لن تختفي، فإن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ظلت تتصرف على نحو عدائي أدى إلى تفاقم المشكلة. على سبيل المثال، ورغم أن منظمة التحرير الفلسطينية قبلت وجود إسرائيل بتوقيع اتفاق أوسلو الأول في عام 1993، فإن أي زعيم إسرائيلي لم يكن على استعداد قط للموافقة على أي دولة فلسطينية خاصة بلفلسطينيين. ولا عجب إذن أن يعترف وزير الخارجية الإسرائيلي السابق شلومو بن عامي في وقت لاحق قائلاً: “لو كنت فلسطينياً، لكنت رفضت محادثات كامب ديفيد”.
وأصبح زعماء إسرائيل ــ وخاصة الحكومات التي يقودها شارون ونتنياهو يتوسعون في الاستيطان، وعملوا جاهدين لإبقاء الفلسطينيين ضعفاء ومنقسمين٬ وعرقلوا مراراً وتكراراً الجهود الأميركية الرامية إلى تحقيق حل الدولتين. وكانت النتيجة سلسلة متكررة من الحروب مع غزة٬ ولكن هذه الجهود المتكررة “لجز العشب” لم تضع حداً للمقاومة الفلسطينية، بل إنها بلغت ذروتها في نهاية المطاف في هجوم حماس عبر الحدود في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهو أسوأ ضربة تلحق بإسرائيل منذ قيامها.
يقول الكاتب الأمريكي٬ إن المثال الأخير الواضح على قصر النظر الاستراتيجي الإسرائيلي يتمثل في معارضتها الشديدة للجهود الدولية الرامية إلى التفاوض على حدود البرنامج النووي الإيراني. فإسرائيل، لأسباب استراتيجية وجيهة، تريد أن تظل الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك أسلحة نووية، ولا تريد أن ترى إيران، خصمها الإقليمي الأبرز، تمتلك القنبلة.
وعلى هذا، كان ينبغي لنتنياهو وغيره من الزعماء الإسرائيليين أن يشعروا بالسعادة والارتياح عندما أقنعت الولايات المتحدة والقوى الكبرى الأخرى في العالم إيران بالتوقيع على خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015. لماذا؟ لأنها تلزم طهران بخفض قدرتها على التخصيب، وتقليص مخزونها من اليورانيوم المخصب، وقبول عمليات التفتيش شديدة التدخل من قِبَل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبالتالي وضع القنبلة الإيرانية بعيداً عن متناول اليد لمدة عقد من الزمان وربما لفترة أطول.
وقد أيد العديد من كبار المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين الاتفاق بحكمة، لكن نتنياهو وأنصاره المتشددين، إلى جانب لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية والمجموعات الأكثر تشدداً في جماعات الضغط الإسرائيلية في الولايات المتحدة، عارضوه بشدة. لقد لعب هؤلاء المتشددون دورا رئيسيا في إقناع الرئيس دونالد ترامب آنذاك بالانسحاب من الاتفاق في عام 2018، واليوم أصبحت إيران أقرب إلى بناء قنبلة نووية من أي وقت مضى. ومن الصعب أن نتخيل سياسة إسرائيلية أكثر قصر نظر.
الإفلات من العقاب يزيد من الغطرسة والانحدار
ولكن ما الذي يفسر التراجع الحاد في العقلية الاستراتيجية الإسرائيلية؟ إن أحد العوامل المهمة هنا هو الشعور بالغطرسة والإفلات من العقاب الناجم عن حماية الولايات المتحدة ودعم رغبات إسرائيل. فإذا دعمتك أقوى دولة في العالم مهما فعلت، فإن الحاجة إلى التفكير ملياً في أفعالك سوف تتضاءل حتماً.
فضلاً عن ذلك فإن ميل إسرائيل إلى النظر إلى نفسها باعتبارها ضحية فقط وإلقاء اللوم على كل معارضة لسياساتها على معاداة السامية لا يساعد كثيراً، لأنه يجعل من الصعب على القادة الإسرائيليين وجماهيرهم إدراك كيف قد تؤدي أفعالهم إلى إثارة العداء الذي يواجهونه. ويشكل حكم نتنياهو كأطول رئيس وزراء في إسرائيل خدمة جزءاً آخر من المشكلة، وخاصة أن أفعاله مدفوعة فقط بالمصلحة الذاتية (أي الرغبة في تجنب السجن بتهمة الفساد).
وإذا أضفنا إلى ذلك النفوذ المتزايد لليمين الديني المتطرف الذي تم تلخيص آرائه المسيحية في “فورين بوليسي” مؤخراً في مقال مرعب في صحيفة هآرتس٬ فسوف نجد وصفة للكارثة. عندما تبدأ أي دولة في اتخاذ قرارات استراتيجية بناءً على نبوءات نهاية العالم وتوقع التدخل الإلهي، فيجب الحذر!