مشكلة جديدة يعاني منها العراق تضاف إلى مشاكله التي لا تتوقف وهي أزمة شُحِّ المياه التي باتت تُمثل أزمة كبيرة ليس في العراق وحده بل في الشرق الأوسط، نظرًا لمخاطر أزمة التغير المناخي التي تضرب العالم بالكامل.
ففي مايو/أيار 2022 اجتاحت بغداد عاصفة ترابية كوّنت سُحُبًا كثيفة من الغبار البرتقالي الخانق والحاجب للرؤية، وجرى نقل الآلاف إلى المستشفى آنذاك بسبب مشاكل الجهاز التنفسي.
وبحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة، يُعتبر العراق من الدول الخمس الأكثر عرضةً لمخاطر تغير المناخ في العالم، كما أنه واحد من أسوأ الدول استعداداً لتلك المخاطر، إذ يصل معدل الإجهاد المائي هناك إلى 3.7 نقطة من أصل 5 نقاط، ويمثل تقييم الـ 5 نقاط أعلى معدلات الندرة.
يشير هذا إلى وضع لا يتوافر فيه ما يكفي من الماء العَذْب لتلبية احتياجات السكان، وهذا يؤثر على نسيج المجتمع بالكامل، وبحلول 2040، من المتوقع أن يصل معدل الإجهاد المائي في العراق إلى 4.6 نقطة وهذا رقم مخيف.
لقد أدّت عقود من الصراعات المسلحة، والنمو السكاني الحاد، وضعف البنية التحتية إلى دفع العراق نحو الهاوية وخلق أزمة المياه في العراق، ومن الطبيعي أن تكون أزمة وجودية كهذه مصدر قلق في أي مكان، لكن غياب الاستقرار محلياً في العراق سيتسرب إلى المنطقة الأوسع، ما سيسفر عن تأثير دومينو من التطرف والتشدد القادرين على جر أغلب العالم نحو الهاوية.
وتقول الحكومة إن لديها خطة، لكن الوضع لا يبشر بالنجاح فهو أشبه بلقاءٍ بين قوةٍ لا يمكن إيقافها وجسم لا يمكن تحريكه.
منصة أسباب المعنية بالتحليل الجيوسياسي ناقشت هذه الأزمة وأبعادها والأسباب التي تقف وراءها وما هي طرق الحل.
“بلاد الرافدين”
يُعَدُّ الماء جزءاً لا يتجزأ من قصة العراق الذي كان يعرف باسم بلاد الرافدين، حيث زوّد نهرا دجلة والفرات تلك الأرض بتدفقٍ ثابت ومتوقع من الماء،ويمتد النهران من تركيا وسوريا وصولاً إلى العـراق، قبل أن يصبا في الخليج.
وفي العصور القديمة، برز العـراق كسلةٍ خبزٍ في المنطقة، حيث سهّلت أنهاره انتشار الزراعة على نطاق واسع، وسمح هذا لأعداد كبيرة من الناس بـ:
- – الاستقرار
- – استغلال موارده
- – ممارسة التجارة
وبهذا لعب نهرا دجلة والفرات دوراً أساسياً في تطوير الحضارة المبكرة، لكن النهرين فرضا بعض المحن أيضاً، إذ كانت الفيضانات الموسمية حدثاً منتظماً بسبب غياب السدود والخزانات التي تتحكم في تدفق الماء ما أدى إلى إتلاف المحاصيل والممتلكات على ضفاف النهرين.
لكن الأوضاع انقلبت بدايةً من السبعينيات من القرن الماضي لتحل مرحلة الندرة محل الفيضانات، وأصبح الماء يتدفق على العراق بكميات أقل تدريجياً واليوم، تمتد أزمة الماء بطول البلاد.
أزمة المياه في العراق
ففي العام 2023، سجّل سد الموصل -الأكبر في العراق- أدنى مستويات سعة تخزينه منذ افتتاحه عام 1986، والتي كانت تبلغ 11 مليار متر مكعب.
وإذا استمر انخفاض منسوب الماء، فسوف تجف بحيرة الموصل المجاورة في غضون سنوات، وسيصبح نحو 1.7 مليون من سكان المناطق القريبة بلا كهرباء أو ماء لري المحاصيل.
وفي الوقت ذاته، انخفض منسوب الماء في سد دوكان من 7 مليارات إلى 3 مليارات متر مكعب، ويعتمد أكثر من 3 ملايين شخص في المنطقة المحيطة على هذا السد لتلبية احتياجاتهم اليومية من الماء العذب.
وليس سد دربندخان القريب بأفضل حالاً، إذ انخفض منسوب الماء فيه بمقدار سبعة أمتار وأصبح السد يعمل بثلث قدرته، فقد أثّر تراجع الموارد المائية على كافة مجالات المجتمع، وانخفضت معدلات الصيد والزراعة والإنتاج الصناعي
لكن الأوضاع أسوأ من ذلك في جنوب العـراق، لأن الماء يفقد الكثير من كميته وجودته عند تدفقه نحو المصب.
إن المدن والبلدات العراقية في منتصف البلاد تعتمد بشدة على نهري دجلة والفرات للحصول على الماء.
وشهدت السنوات الأخيرة انخفاض معدلات هطول الأمطار بنسبة 40% عن المتوسط فعند وصول الماء إلى جنوب العراق، ينتهي المطاف بنفايات البنية التحتية الصناعية والزراعية القديمة في قاع النهر ما يؤدي إلى مخاطر صحية مهولة.
عام 2018 مثلاً، جرى نقل نحو 118 ألف شخص إلى المستشفى في البصرة نتيجة أعراض مرتبطة بتلوث الماء، وبعدها بسنوات وفي عام 2023، وجد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن معدلات الملوحة في ملتقى دجلة والفرات قرب البصرة بلغت 10 أضعاف معايير منظمة الصحة العالمية، وفي الوقت ذاته، ومع انخفاض منسوب الماء العذب في الجنوب؛ بدأت مياه البحر من الخليج تحل محله وتدفقت المياه المالحة مسافة 190 كلم تقريباً في اتجاه الشمال.
ويؤدي هذا التدهور البيئي إلى تدمير أهوار العراق، وهي منطقة رطبة تقع عند سهول فيضانات دجلة والفرات، تُعد هذه المنطقة موطناً لبيئة شديدة التنوع البيولوجي وتضم أنواعاً مهددة بالانقراض، ناهيك عن الثقافة المحلية المميزة والفريدة.
لكن هذا النظام البيئي بأكمله صار عرضةً لخطر الانقراض ونتيجةُ كل هذه العوامل المتداخلة هي أن نهري العراق يموتان، وقد يحدث هذا بحلول عام 2040 وفقاً لوزارة الموارد المائية، وفي حال موت هذين النهرين، فسيموت العراق معهما.
مشروع “إليسو” التركي.. كارثة للعراق
من سوء حظ بغداد أنها تقع عند قاع حوض النهر إذ إن نحو 90% من مياه نهر الفرات تنبع من جبال الأناضول التركية، وبالنسبة لنهر دجلة، سنجد أن حصة تركيا منه تبلغ 45%، وتستحوذ سوريا وإيران والعراق على النسبة المتبقية من نهر دجلة، لكن تركيا تظل صاحبة الحصة الأكبر.
وبدايةً من السبعينيات، بدأت تركيا في إنشاء السدود وخزانات الماء بطول أنهارها بعدما سعى المسؤولون الأتراك إلى تعزيز النشاط الاقتصادي في منطقة الأناضول باستغلال الطاقة المائية.
وفي العقود التالية، بنت تركيا أكثر من 600 سد وخزان على كلا النهرين، ومن المقرر بناء 600 آخرين على مدار العقود المقبلة، وكلما شيّدت تركيا المزيد من السدود، قلّ منسوب الماء المتدفق إلى العراق.
مشروع إليسو الضخم يتألف من 22 سداً و19 محطة للطاقة الكهرومائية بطول دجلة والفرات يقع قرب الحدود التركية مع سوريا والعراق.
أتاح المشروع إحداث تحول ضخم على مساحاتها الخضراء بإنشاء بحيرات وأراضٍ زراعية جديدة
وربما يكون مشروع إليسو مناسباً لتركيا، لكنه يُعد كارثةً بالنسبة للعراق، إذ من المتوقع أن يتراجع معدل تدفق الماء على نهر دجلة في العراق بنسبة 65% إضافية خلال السنوات المقبلة، وليست هناك اتفاقيات رسمية بين العـراق وسوريا وإيران وتركيا فيما يتعلق بإدارة الماء.
وهذا العالم بلغت معدلات هطول الأمطار أدنى مستوياتها منذ 62 عاماً، فقد وصل الأمر إلى انتشار حرائق غابات ضخمة في أنحاء البلاد نتيجة ضعف هطول الأمطار، والجفاف، والحرارة عام 2021.
هذا يعني أن حاجة تركيا للموارد المائية ليست بشرى جيدة للعراق الواقع عند المصب والنتائج واضحة، فمنذ عام 1970، تراجع حجم الماء المتدفق على نهري الفرات ودجلة من 40 و45 مليار متر مكعب إلى 15 و20 مليار متر مكعب سنوياً على الترتيب.
ويحتاج العـراق نحو 77 مليار متر مكعب لتلبية احتياجاته الصناعية والزراعية والمدنية، لكن الكمية المتوفرة من الماء تساوي 35 مليار متر مكعب فقط، ويُعَدُّ هذا الفارق بمثابة حكم إعدام بالتصوير البطيء.
إقليم كردستان.. إنشاء سدود
والأسوأ من ذلك أن إقليم كردستان في العراق يدرس هو الآخر إنشاء سدود على جميع روافده، وسيقلل هذا من تدفق الماء نحو المصب أكثر.
- جرى الانتهاء من بناء 14 سداً
- يجري إنشاء 17 آخرين حالياً
- وجود 40 سداً في مرحلة التخطيط
وبنهاية المشروع، سيمتلك إقليم كردستان العراق ما يصل إلى 245 سداً وخزان مياه، ولا شك أنه مشروع مبهر، لكنه سيقلل حصة بغداد القريبة من المصب أكثر، ورغم ذلك، أخفقت الحكومة الاتحادية في حل العجز المائي على مستوى البلاد، فبعد عقود من الإشراف التعسفي، لم يتحقق أي تقدم حقيقي على صعيد إدارة الماء في الممارسات الزراعية والصناعية.
إذ ما تزال الكثير من أنشطة الري في البلاد تجري بالطرق التقليدية ونتيجةً لذلك، يفقد العراق مليارات الأمتار المكعبة من الماء بسبب التبخر وغيره من الممارسات المسرفة، كما تستهلك الزراعة نحو 63% من سعة الماء الإجمالية في العـراق، ولكن الإدارة السيئة وغير الفعالة تركت البلاد تحت رحمة الصحراء.
واليوم، يؤثر الجفاف على أكثر من 90% من مساحة العراق، وتزحف الصحراء أقرب فأقرب من كافة الجبهات، خاصةً في الجنوب، حيث تتسلل مياه البحر نحو عمق اليابسة في الوقت نفسه، وقد خسر العـراق أكثر من نصف أراضيه الصالحة للزراعة منذ عام 1970 ويخسر 100 كيلومتر مربع إضافي من الأراضي الزراعية كل عام.
وكانت العواصف الرملية كالتي حدثت في بغداد عام 2022 تتكرر مرتين سنوياً لكنها باتت تحدث 20 مرةً في العام الآن، ويقول الأكاديميون العـراقيون إن بلدهم قد يعيش 272 يوماً ترابياً كل عام خلال العقدين المقبلين، ويعاني نحو سبعة ملايين مدني الآن نتيجة العجز المائي وآثاره الثانوية، وستكون تداعيات هذا الأمر واسعة النطاق لأن ما يتراوح بين 20% و30% من القوى العاملة العـراقية تعمل في الزراعة.
إذ تؤدي قلة الأراضي الصالحة للزراعة إلى:
- تهديد الأمن الغذائي ورفع أسعار الغذاء
- تأثر فرص العمل لأن انكماش الأراضي الزراعية يقلل الحاجة إلى العمالة في القطاع الزراعي
ومع جفاف الأرض وفقدان سبل العيش، يحزم الناس أمتعتهم ويهاجرون لمكان آخر وهذه أزمة متعددة الطبقات لأن الحكومة خططت للاستثمار في الزراعة من أجل تنويع اقتصادها بعيداً عن الهيدروكربونات، أي إن الزراعة كان من المفترض أن تصبح بوابة العـراق نحو الإصلاح الاقتصادي، لكن تراجع الموارد المائية يجعل نجاح تلك الخطة مستبعداً.
“الغريق يتعلّق بقشة”
ليست أزمة العراق الوجودية محصورةً داخل حدوده، إذ يقع العـراق في قلب الشرق الأوسط، وهذا يعني أن زعزعة استقرار العراق ستتسرب إلى محيطه وتطلق موجةً من التطرف والتشدد، وليست هناك الكثير من المساحات الديمقراطية والمؤسسية المتوافرة لحل التعقيدات المنتظرة.
لهذا فإن مشكلة العراق هي مشكلة للعالم بأسره، فعندما يضرب الجفاف اليابسة ويشعر المدنيون بالتهميش؛ يُصبح صعود التشدد أمراً حتمياً، وعندما شعر العـراقيون بذلك آخر مرة، أسست القوى الجهادية تنظيم الدولة الذي استولى على أجزاء من العراق وسوريا وغيرها لاحقاً.
وارتكب التنظيم عددا من الفظائع التي تضمنت:
- – الإعدامات الجماعية
- – التفجيرات
- – الاستعباد
- – نشر التشدد حول العالم عبر دعايته وأعمال عنفه
وقد كان تنظيم داعش فظيعاً، لكن نسخته التالية ستكون أسوأ، لأن الظروف ستكون بائسةً أكثر، وحين تُحوِّل أزمة الماء والغذاء والطاقة العـراق إلى بؤرةٍ لعدم الاستقرار، سينضم المسلحون اليائسون الذين خسروا كل شيء إلى داعش الجديدة وسيتوغلون بعدها في المنطقة الأوسع مدفوعين برغبة الانتقام.
وتُعد الأزمة أكثر إلحاحاً بسبب توقيتها، إذ ينمو عدد سكان العـراق حالياً بمعدلٍ غير قابل للاستدامة، ومن المتوقع أن يتجاوز العدد الـ63 مليون نسمة بحلول عام 2040، وذلك مقارنةً بـ46 مليون نسمة اليوم، وبحلول عام 2071، سيتجاوز عدد سكان العراق 94 مليون نسمة، ليتجاوز بذلك إيران وتركيا، لكنها لن تكون نهاية الصعود، إذ سيستمر السكان في النمو بلا انقطاع وصولاً إلى 111 مليون نسمة قبل نهاية القرن.
وتواجه الدراسات السكانية صعوبةً في التنبؤ، لكن بقاء العراق على المسار نفسه يعني زيادة الطلب على الماء مع استمرار تراجع المعروض.
وستؤدي قلة الماء المتوافر إلى تراجع ثابت في الخدمات العامة وانخفاض الأمن والغذاء وانهيار الرعاية الصحية بحلول عام 2040 سيصبح العراق بلداً بلا أي أنهار وسيموت نهرا دجلة والفرات ببطء ربما يستمر تدفق الماء هامشياً لكنه لن يبلغ مصبه النهائي في الخليج ستتأثر كافة مكونات المجتمع العراقي حتى يتحول البلد إلى مكانٍ غير صالح للعيش، سيكون انقلاب الأحوال هذا جذرياً بالنظر إلى أن منطقة العـراق كانت تُعرف ذات يوم بالهلال الخصيب.
حلول لأزمة المياه في العراق
تبدو أزمة الماء العراقية عويصة، لكنها ليست مستحيلة الحل، إذ جرى اتخاذ بعض الخطوات الصغيرة على الطريق الصحيح.
ففي عام 2023 مثلاً، بدأ إنشاء محطة تحلية مياه جديدة بتكلفة 200 مليون دولار قرب البصرة، بتمويل ودعم فني ياباني تغطي هذه المنشأة احتياجات نحو 400 ألف شخص.
وعلى مسافة قريبة، هناك مشروع أمريكي قيد التنفيذ لتحديث بنية الماء التحتية لما يصل إلى 650 ألف شخص في الوقت ذاته، تتفاوض الصين من أجل بناء محطات تحلية إضافية لتلبية احتياجات ملايين العراقيين.
هذا هو الطريق الصحيح للعراق، لكن يجب على الحكومة الاتحادية تقديم ما هو أكثر.. أكثر بكثير، إذ يجب عليها:
- تحديث بنيتها التحتية
- بناء عمليات إعادة تدوير
- وحدات لمعالجة التلوث
- معالجة مياه الصرف الصحي وتأسيس المرافق اللازمة لذلك
ويمكن أن يتخذ العراق إجراءً مؤقتاً يتمثل في استغلال المياه الجوفية، لكن الأهم من ذلك هو دعم المزارعين ليستخدموا أساليب الري المعاصرة لتقليل هدر الماء، ويجب على بغداد كذلك أن تجد طريقةً لتعليق وإعادة تقييم مشروع السدود في كردستان العـراق.
كما من الضروري التوصل إلى ترتيب ما مع تركيا حيث منبع النهر، ويمكن وصف ذلك بدبلوماسية المناخ، إذ لن يصب انهيار العراق في مصلحة تركيا، لأن عدم الاستقرار يولد المزيد من عدم الاستقرار.
ويُدرك المسؤولون الأتراك ذلك لهذا جرى التوصل إلى مذكرة تفاهم مع تركيا تدعو إلى تدفقٍ عادل للمياه نحو المصب في العراق، رغم أن المذكرة افتقرت للإطار القانوني ولم يجر الانتهاء من الشروط بعد، وما يزال الأمر رهن المفاوضات، لكنها تظل خطوةً على الطريق الصحيح.