الأخبار

كيف تضر معاقبة الكونغرس المحكمة الجنائية الدولية بسبب إسرائيل بالنظام العالمي “الأمريكي”؟

أقر مجلس النواب، أحد غرفتي الكونغرس، تشريعاً يعاقب المحكمة الجنائية الدولية بسبب إسرائيل، وتظل الخطوة التالية لتحويل التشريع إلى قانون بيد مجلس الشيوخ ثم الرئيس جو بايدن.

هذا التحرك جاء بعد إعلان مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية سعيه لاستصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، بسبب الجرائم المرتكبة في الحرب على غزة، وهو ما أعلنت إدارة بايدن رفضه ولوحت بمعاقبة المحكمة.

يضع الموقف الأمريكي هذا واشنطن في مأزق قانوني وأخلاقي يهدد بتقويض النظام العالمي، الذي يردد بايدن طوال الوقت بأن هدفه الرئيسي هو الحفاظ عليه، في مواجهة سعي الصين وروسيا لتقويضه وإقامة نظام عالمي جديد.

ماذا أقر مجلس النواب الأمريكي؟

–       في هذا الإطار، أقر مجلس النواب الأمريكي، الذي يقوده الجمهوريون، تشريعاً يفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، وجاء التصويت بأغلبية 247 صوتاً مقابل 155، وانضم 42 ديمقراطياً إلى الجمهوريين في دعم التشريع. ولم يكن هناك تصويت بالرفض من الجمهوريين.

–   من شأن هذا التشريع، حال إقراره أيضاً من مجلس الشيوخ -يسيطر عليه الديمقراطيون- أن يفرض عقوبات على المشاركين في محاكمات الجنائية الدولية للأمريكيين أو “مواطني حلفاء الولايات المتحدة الذين ليسوا أعضاء في المحكمة، بما في ذلك إسرائيل”. كما أنه سيمنع دخول مسؤولي المحكمة إلى الولايات المتحدة، ويلغي أي تأشيرات دخول لهم.

–   أمل كلوني، المحامية الحقوقية الدولية وزوجة الممثل الأمريكي الشهير جورج كلوني، ستكون أحد المعاقبين بموجب هذا التشريع حال تحوله إلى قانون نافذ، لماذا؟ لأنها أحد المستشارين المشاركين في تحقيق مكتب خان الذي أدى إلى السعي لاعتقال نتنياهو وغالانت ومسؤولي حماس.

–   التشريع الذي أقره مجلس النواب لا يحصر العقوبات على مدعي عام المحكمة وقضاتها ومستشاريها، بل يتخطاهم ليشمل عائلاتهم وأقاربهم من الدرجة الأولى، وهذا يشمل جورج كلوني نفسه بطبيعة الحال، فالزوج من أقارب الدرجة الأولى.

ماذا قال من صوتوا لصالح معاقبة المحكمة؟

التشريع الذي أقره مجلس النواب يسمى “قانون مواجهة المحكمة غير الشرعية”، فكيف برر مقدموه ومؤيدوه موقفهم؟

–   “لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي ونسمح للمحكمة بأن تتصرف كيفما تشاء”، بحسب النائب الجمهوري تشيب روي، أحد رعاة التشريع الرئيسيين، مشيراً إلى أن “هذا التشريع يوجه رسالة قوية للمجتمع الدولي مفادها أن الولايات المتحدة لن تسمح بقضايا مسيسة ضدها أو ضد حلفائها”، بحسب تقرير لموقع ريسبنسبول ستيتكرافت الأمريكي.

–   “هذه محكمة كانغارو (مصطلح يعني محكمة هزلية لا تخضع لقواعد ولا تحترم عدالة)”، بحسب النائب روي ريتشينتيلر، وهو أيضاً جمهوري وراعٍ آخر للتشريع، مضيفاً: “الدفاع عن هذه المحكمة هو دفاع عن مؤسسة معادية لأمريكا ومعادية لإسرائيل ومعادية للسامية”.

لماذا هذا الموقف الأمريكي من المحكمة الجنائية؟

تبني واشنطن موقفها المعارض لسعي المحكمة الجنائية الدولية لإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير الدفاع، على أساس نقطتين هما:

–   الأولى: الزعم بأن مدعي عام المحكمة، كريم خان، يساوي بين إسرائيل وحماس، حيث يسعى أيضاً إلى إصدار مذكرة اعتقال بحق 3 من مسؤولي حركة المقاومة الفلسطينية هم يحيى السنوار ومحمد الضيف وإسماعيل هنية.

–   الثانية: الزعم بأن تدخل المحكمة الجنائية يؤثر سلباً على المفاوضات السياسية الرامية إلى التوصل لاتفاق هدنة وتبادل للأسرى بهدف إنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة، المستمرة منذ 8 أشهر.

الرد على النقطة الأولى: المساواة بين إسرائيل وحماس

–   القراءة البسيطة في التهم الموجهة لنتنياهو وغالانت تفند الزعم الأمريكي بأن المحكمة الجنائية الدولية تساوي بين إسرائيل وحماس، بحسب تقرير لمجلة TIME استطلع آراء خبراء قانونيون وحقوقيون.

–   فنتنياهو وغالانت متهمان بتجويع المدنيين والتسبب عمداً في إيذاء وقتل المدنيين وإعطاء أوامر بقصف تجمعات سكنية مدنية. وفي بيانه، قال كريم خان: “إسرائيل، مثل جميع الدول، من حقها اتخاذ أفعال للدفاع عن مواطنيها، لكن هذا الحق لا يعفي إسرائيل أو أي دولة أخرى من حتمية الالتزام بالقانون الدولي”.

–   “بغض النظر عن أي أهداف عسكرية قد تكون لديهم، فإن الوسائل التي تختار إسرائيل أن تنفذ بها تلك الأهداف، وهي وسائل تسبب الموت والتجويع والمعاناة الفظيعة والإصابات الخطيرة للسكان المدنيين، تعتبر وسائل إجرامية”، بحسب بيان خان.

–   لا الولايات المتحدة ولا بريطانيا تناقضان هذا التوصيف من جانب مدعي المحكمة الجنائية الدولية، إذ تقر واشنطن ولندن بأن هناك تكلفة بشرية عالية بين المدنيين في القطاع وبأنه لا توجد محاولات إسرائيلية لتسهيل دخول المساعدات الإنسانية.

–   “لا تقدم الولايات المتحدة حجة موضوعية بشأن موضوع القضية”؛ بحسب ما قاله ديلان ويليامز، نائب الرئيس للشؤون الحكومية في مركز السياسة الدولية ومقره الولايات المتحدة، لمجلة تايم: “إنهم لا يشككون في الحقائق الأساسية للقضية. لكنهم بدلاً من ذلك، يقدمون حججاً تجميلية إلى حد كبير حول ملاحقة مسؤولي حماس وكبار المسؤولين الإسرائيليين. الأمر هنا يشبه توجيههم انتقادات لاستراتيجية تواصل سياسي (وليس تهم جنائية موثقة بالأدلة)”.

الرد على النقطة الثانية.. مفاوضات الهدنة

بررت إدارة بايدن وحكومة بريطانيا رفض سعي المحكمة الجنائية الدولية لاعتقال نتنياهو وغالانت بأنه سيعرقل جهود الوساطة الرامية إلى التوصل لهدنة توقف الحرب الإسرائيلية على غزة، فما مدى قوة هذه الحجة؟

–   تأمين وقف إطلاق النار، كما تحاول الولايات المتحدة ووسطاء الدول الأخرى القيام به خلال الأشهر الماضية، لا يقع ضمن مهام المحكمة الجنائية الدولية، بحسب تقرير مجلة تايم. فسبب وجود المحكمة، كما هو منصوص عليه في نظام روما الأساسي، هو محاكمة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب – وهو الدور الذي وافقت عليه 124 دولة موقعة على النظام الأساسي للمحكمة، ومن بين هذه الدول المملكة المتحدة.

–   لا الولايات المتحدة ولا إسرائيل أعضاء في نظام روما الأساسي، وبالتالي لا تعترف أي منهما بسلطتها، بينما قال متحدث باسم حكومة المملكة المتحدة إنها لا تعترف باختصاص المحكمة الجنائية الدولية في هذه القضية.

–       “إن الزعم بأن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية فعل ذلك بطريقة خاطئة من خلال تقديم طلب إصدار أوامر الاعتقال في توقت سيئ بالنسبة للمفاوضات هو إساءة فهم لغرض المحكمة ووظيفتها بشكل أساسي” يقول ويليامز. “وظيفة المدعي العام ضيقة ومحددة للغاية ولا تنطوي على إخضاع القانون أو عمليات المحكمة للتفضيلات السياسية لأي طرف”.

–   الولايات المتحدة، التي لم توقع على نظام روما الأساسي، تعاونت مع المحكمة الجنائية الدولية بشكل مكثف وقدمت لها المساعدات في قضايا أخرى، مثل محاكمة مجرمي الحرب الصرب في البوسنة وقضية عمر البشير في السودان (ملف دارفور)، وأخيراً الحرب في أوكرانيا وإصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

ما موقف إدارة بايدن من هذا التشريع؟

–   قبل التصويت بيوم واحد، أعلن البيت معارضته لهذا التشريع: “توجد طرق أكثر فاعلية للدفاع عن إسرائيل والحفاظ على مواقف الولايات المتحدة من المحكمة الجنائية الدولية، ودفع العدالة الدولية والمحاسبة للأمام. والإدارة مستعدة للعمل مع الكونغرس على هذه الخيارات”.

–   بيان البيت الأبيض يبقي الباب مفتوحاً على مصراعيه لإمكانية التوصل إلى أرضية مشتركة مع الجمهوريين بشأن عقوبات ضد المحكمة الجنائية الدولية.

تحذيرات حقوقية

–   جاء هذا الموقف من إدارة بايدن بعد أيام قليلة من تقديم 124 منظمة حقوقية، من ضمنها هيومان رايتس ووتش، خطاباً مفتوحاً إلى واشنطن، يحذر من خطورة معاقبة قضاة المحكمة الجنائية الدولية على “النظام العالمي” القائم على حكم القانون، وهو النظام الذي ترعاه أمريكا وتصر على استمراره.

–   جاء في الخطاب، الموجه إلى إدارة بايدن يوم 22 مايو/أيار الماضي، أن هذه المنظمات تناشد “الرئيس بايدن أن يرفض الهجمات على المحكمة”، واصفين عقوبات إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب ضد المدعية العامة السابقة للمحكمة نفسها بأنه كانت “انتهاكاً صارخاً وضربة موجعة موجهة للعدالة”.

–   “إن عقوبات الإدارة السابقة ضد مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية.. قد وضعت الولايات المتحدة في مصافّ الأنظمة السلطوية التي تهدد القضاة والمؤسسات القضائية المستقلة. يجب على الرئيس أن يعارض أي جهود تشريعية لتقويض المحكمة الجنائية الدولية وأن يكون موقفه واضحاً من أنه بغض النظر على وجود تحقيقات محددة تجريها محكمة الجنايات الدولية، فإن الولايات المتحدة ستواصل دعم آليات تحقيق العدالة الدولية المستقلة”.

بسبب إسرائيل، بايدن يهدم “النظام الأمريكي”!

–   يرى مراقبون أن موقف واشنطن من محكمة الجنايات الدولية بسبب إسرائيل يضفي مزيداً من المصداقية على الحجة القائلة بأن الدول الغربية تطبق معايير مزدوجة على إسرائيل لا تنطبق على دول أخرى.

–   خان نفسه أشار إلى هذه النقطة في مقابلة أجرتها معه شبكة CNN مؤخراً، كشف خلالها المدعي العام أن أحد كبار القادة وصف المحكمة الجنائية الدولية ذات مرة بأنها “مصممة لأفريقيا وللبلطجية مثل بوتين، وليس للقادة المنتخبين ديمقراطياً”.

–   وفي الوقت نفسه، تخاطر إدارة بايدن بتقويض النظام القائم على القواعد وهو النظام نفسه الذي يزعم بايدن أنه يدافع عنه، بحسب تقرير تايم. ويدرك المشرعون الأميركيون والأوروبيون تمام الإدراك كيف أثرت الحرب على غزة على المكانة العالمية لبلدانهم. وربما لهذا السبب اختارت العديد من الدول الغربية -من بينها فرنسا وألمانيا، التي ربما تكون أقوى حليف أوروبي لإسرائيل- دعم المحكمة الجنائية الدولية.

–   “يرى الجنوب العالمي بالفعل نفاقاً هائلاً في كيفية وتوقيت تطبيق القانون الدولي، وقد تفاقم هذا النفاق فقط في الأشهر السبعة الأخيرة خلال حرب غزة”، بحسب ويليامز.

لحظة الحقيقة للنظام الأمريكي

–   إصدار مذكرات الاعتقال سيقع في نهاية المطاف على عاتق لجنة مكونة من ثلاثة قضاة في المحكمة الجنائية الدولية، ومن المرجح أن يصدر القرار بعد أشهر. وإذا تم ذلك بالفعل، سيتم منع نتنياهو وغالانت وقادة حماس الثلاثة فعلياً من السفر إلى أي دولة تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية -وهي المنطقة التي تشمل معظم نصف الكرة الغربي، بالإضافة إلى أجزاء من أوروبا وأفريقيا وأوروبا. آسيا- خشية المخاطرة باحتمال الاعتقال. وبما أن المحكمة الجنائية الدولية ليس لديها آلية تنفيذ خاصة بها، فإن الالتزام يقع على عاتق الدول الأعضاء البالغ عددها 124 دولة.

–   الكيفية التي تختار بها حكومات العالم الرد على المحكمة الجنائية الدولية، وما إذا كانت ستختار تنفيذ أي أوامر الاعتقال المرتقبة، ستقرر ما إذا كانت هذه اللحظة بمثابة تأكيد قوي على أهمية القانون الدولي، أم تعزيز عجزه ومعاييره المزدوجة.

“نحن في لحظة محورية بالنسبة للنظام الدولي القائم على القواعد الذي حاولت الولايات المتحدة بنائه لمدة 70 عاماً. السؤال الذي يطرحه الكثير من العالم هو هل تنطبق القوانين والإجراءات التي أنشأتها الولايات المتحدة على الجميع بالتساوي، أم أن الولايات المتحدة وأصدقاءها محصنون؟”، بحسب ويليامز.