بالعودة إلى القرن 17 إلى حدود القرن 19، سنجد أن الناس كانوا لديهم وجهة نظر مختلفة تمامًا بشأن مشاعر الحنين إلى الماضي، والتي تسمى “نوستالجيا”.
في الواقع، طوال تلك القرون الماضية، كانت النوستالجيا، والمشاعر التي تصاحبها، تعتبر مرضًا خطيرًا، وكان يتم التعامل معه بشكل دقيق، خصوصًا بين الجنود، الذين كانوا أول من تظهر عليهم أعراض هذه الحالة.
ومع ذلك، وفي القرن الحادي والعشرين، نرى أن فكرة الحنين إلى الماضي أصبحت تُعرف بشكل مختلف تمامًا، وأصبحت لها دلالات جمالية، ويتم وصفها على أنها مشاعر جميلة، وليست بشعة، كما كان الحال قديمًا.
ومع ظهور العديد من النظريات في وقتنا الحالي، التي تعتمد على ميل مجتمعنا للاستمتاع بهذا الشعور الدافئ والكئيب قليلاً الذي يأتي مع الحنين إلى الماضي، فهذا قد يجعل السؤال الذي قد يتبادر إلى أذهاننا هو: لماذا ننجذب إلى الماضي كثيرًا وهل الانغماس في الحنين إلى الماضي مفيد بالفعل لصحتنا العقلية؟
تاريخ النوستالجيا.. عندما كان الحنين إلى الماضي مرضًا
صاغ الطبيب السويسري يوهانس هوفر كلمة الحنين إلى الماضي في عام 1688، والتي كانت تُنطق “ألجوسنوستوس”، وهي مشتقة من الكلمة اليونانية “نوستوس” التي تعني العودة إلى الوطن، و”ألجوس” التي تعني الألم.
وفي القرن السابع عشر، كان هذا الفهم المبكر للحنين أحد الإصدارات العديدة لما فهمه الناس آنذاك على أنه حزن وجنون العظمة، يدخل في خانة أنّه مرض نفسي.
لكن الاختلاف الرئيسي كان في كيفية ارتباط المرض بشكل خاص بشخص أو مكان أو وقت معين.
إذ في تلك الأيام الأولى من الفهم لهذه الحالة، كان الحنين مرتبطًا بشكل خاص بالجنود السويسريين، وخاصة أولئك الذين كانوا يخدمون في دول أخرى بعيدًا عن منازلهم لفترات طويلة من الزمن.
من أبرز هذه الحالات، أثناء حرب الثلاثين عامًا، وأثناء وبعد الحرب الأهلية الأمريكية، حيث تبنى الأطباء الأمريكيون هذا المفهوم.
وقد كان علاج النوستالجيا، أو الحنين إلى الماضي يختلف بشكل كبير اعتمادًا على المكانة الاجتماعية والسياق الذي يحدث فيه.
إذ لا شك أن الطفل الذي ينتمي إلى عائلة ثرية والذي يتم فصله عن مربيته سوف يتلقى نوعًا من الرعاية الخاصة لسحبه تدريجياً من موضوع الحنين إلى الماضي، في حين يتم التعامل مع الجنود بقسوة أكبر بكثير من خلال العلاجات التي تنطوي على تخويفهم من فكرة التفكير في الماضي، حتى يقرروا التوقف عن التفكير فيه.
وقد كان خلال تلك الحقبة الزمنية يُعتبر التفكير في الماضي عبارة عن مرض خطير جدًا، يجب علاجه بشكل سريع، كونه يمكن أن يكون من بين الأمراض القاتلة.
النوستالجيا بين الماضي والحاضر
يقول توماس دودمان، المؤرخ بجامعة كولومبيا، إن ما يخطئ الناس في اعتباره حنينًا إلى الماضي من المرجح أن يندرج تحت ما نفهمه الآن باسم اضطراب ما بعد الصدمة أو الاكتئاب، وخاصة عند النظر إلى الجنود والمحاربين القدامى.
إذ بعد فترة وجيزة من نهاية الحرب الأهلية الأمريكية، سقطت فكرة الحنين إلى الماضي كمرض طبي واضطراب نفسي.
و بحلول مطلع القرن العشرين، تم دمج الأعراض التي كانت مرتبطة بالحنين كاضطراب مع ما كان يسمى آنذاك “الفصام”، لكنها كانت تبدو مختلفة تمامًا عن التشخيص الحديث.
ما نتصوره الآن على أنه نوستالجيا، هو شعور عاطفي وإيجابي ودافئ، لكنه مشوب بالحزن والشوق إلى الماضي، يفكر فيه ويفهمه أولئك الذين يبحثون فيه بطريقة مختلفة تمامًا من أجل فهمه.
بالنسبة لجامعة ساوثهامبتون في إنجلترا، تصف مجموعة الحنين بأنها “عاطفة ذات صلة ذاتية” ولكنها أيضًا “عاطفة اجتماعية”.
كما يصفونها بأنها “مريرة وحلوة، وإن كانت إيجابية في الغالب” وأنها تنجم عن “ظروف منفرة بشكل عام، مثل التأثير السلبي أو الشعور بالوحدة”.
الحنين إلى الماضي ليس مرضًا.. إنه مصدر إلهام
بعد أن تغير مفهوم النوستالجيا، وتم فهمه بالطريقة الصحيحة، فقد تم تداولها في عصرنا الحالي على أشكال فنية مختلفة، فقد كان مصدر إلهام العديد من المبدعين، الذين حاولوا وصف الروابط المتينة التي تربطهم بالماضي، وليس المكان بحد ذاته.
مؤخرًا، عادت المغنية وكاتبة الأغاني الإنجليزية كيت بوش إلى قوائم الموسيقى العالمية بعد ظهور أغنيتها “Running up that hill Deal with God” في حلقة من مسلسل “أشياء غريبة” أو “Stranger Things”.
وقد أدى هذا إلى العودة لفكرة النوستالجيا وإعادة تداولها بشكل واضح في مختلف وسائل الإعلام ووسائل التواصل، لتكون بذلك متداولة بمفهومها الجديد عند الناس.
المسلسل، في مجمله، هو مثال رائع لكيفية استخدام وسائل الإعلام والفنون للحنين إلى الماضي لإثارة المشاعر لدى الناس.
وفي مقالة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز عن مجموعة الحنين إلى الماضي في جامعة ساوثهامبتون، تحدث الدكتور قسطنطين سيديكيدس وتيم وايلدشوت عن الحنين إلى الماضي باعتباره تجربة إنسانية وعالمية، وعلَّقا على أن “السمات المميزة للحنين إلى الماضي في إنجلترا هي أيضًا سمات مميزة في إفريقيا وأمريكا الجنوبية”.
تعريف الحنين عبر الزمان والمكان
يمكن أن نتساءل عند مشاهدتنا فيلماً ما أو قراءة رواية تصف أحداث ومشاهد من الماضي الذي لم نعشه أبدًا، مثلاً في حقبة الثلاثينيات والخمسينيات، عن السبب الذي يجعلنا نعيش حالة من الحنين، وكأننا كنا فعلاً جزءًا من تلك الحقبة الزمنية.
وهذا يوضح أن هذا الشعور عبارة عن تجربة شائعة، لدرجة أن كلمة “أنيمويا” تمّ التوصية بها لقاموس كولينز، لتكون بمعنى “حنين إلى وقت لم تعرفه من قبل”.
وهنا يمكن القول إن تجارب الحنين إلى الماضي غالبًا ما تكون في أقوى حالاتها أثناء الظروف المهددة للحياة، مثل العواصف الشديدة، أو الكوارث الطبيعية.
إذ غالبًا ما يُلاحظ أن مشاعر الحنين إلى الأوقات الماضية تُشعر بدون مراعاة السياق الأوسع لذلك الوقت.
لذا، فإن الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم من المعجبين الكبار بجيل الخمسينيات على سبيل المثال، يجدون أنفسهم قادرين على الاستمتاع بالموضة والموسيقى وتاريخ وكل ما يتعلق بتلك الفترة، ويعيشون حالة من النوستالجيا لها، وكأنهم من أبناء الجيل القديم هذا.
ربما يكون هذا هو ما يحدث مع الأجيال الأصغر سنًا – جيل الألفية والجيل Z والجيل الوسيط – عندما يشاهدون مسلسلات معينة ويعودون إلى ذلك الوقت من خلال الموسيقى والديكور والحوار.
من المرجح أن هؤلاء الأشخاص يديرون ما يسمى بالذاكرة الانتقائية فيما يتعلق بما كانت عليه تلك الفترة الزمنية الموجودة في الحنين إلى الماضي وربطه بالواقع.
النوستالجيا، هل هو سلبي حقًا؟
بالطبع، كما هو الحال مع العديد من الأشياء في الحياة التي قد تجعلنا نشعر بسعادة أكبر في اللحظة الحالية، أو بمزيد من الرضا، فإن الحنين إلى الماضي هو شيء نستمتع به ونحيط أنفسنا به باعتدال. ومع ذلك، لا جدال في أن الحنين له فوائد عظيمة لصحتنا العقلية وإحساسنا بالذات، لأنه يسمح لنا بالشعور بمزيد من “الارتباط وليس بالوحدة”، ليس فقط مع الآخرين ولكن أيضًا مع أنفسنا، حيث يمكننا من خلال الحنين إلى الماضي أن نرى أننا نفس الشخص تقريبًا حتى مع مضي الزمن.
أما في شكله الأكثر فعالية، يجب استخدام النوستالجيا كنوع من الأدوات الوجودية، إذ استخدامه من أجل مقارنة الماضي والمستقبل قد لا يكون مفيدًا، بدلاً من ذلك، يمكن أن يكون الحنين قادرًا على دعم بعض الأسئلة المهمة، مثل معنى الحياة، وطريقة عيشها الصحيحة.