أخيرًا تنفست الجالية المغاربية في فرنسا الصعداء بعد أن فشل اليمين المتطرف الفرنسي ممثلًا في “التجمع الوطني”، في الحصول على المركز الأول في الانتخابات التشريعية، التي تصدَّرها تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” اليساري، فيما حل ائتلاف “معًا” الرئاسي بقيادة إيمانويل ماكرون ثانيًا.
بينما تتواصل المفاوضات بين مكونات اليسار الفرنسي بهدف الاتفاق على مرشح يحظى بالإجماع لتشكيل ورئاسة الحكومة، يسود الانتظار في الضفة الجنوبية للمتوسط، وخاصة في المغرب والجزائر اللتين تترقبان مواقف الحكام الجدد في فرنسا، بعد الشد والجذب اللذين ميزَّا علاقتهما بباريس خلال السنوات الماضية.
الموضوع الرئيس الذي سيكون فاصلاً في تحديد مستقبل العلاقات بين أي حكومة جديدة في فرنسا مع المغرب، هو ملف الصحراء الغربية، التي وضعها المغرب كمعيار لقرب أي دولة من المملكة، وهو الملف ذاته الذي يشكل حساسية بالنسبة للجزائر إلى جانب ملفات أخرى أبرزها “ملف الذاكرة” المرتبط بفترة الاحتلال الفرنسي للبلاد.
قبل التطرق إلى انتظارات المغرب والجزائر من الحكومة الفرنسية الجديدة وكيف يفكر زعماء “الجبهة الشعبية الجديدة” في تدبير هذه العلاقة المعقدة على مر السنين، وجب التعريج على ما ميزَّ علاقة البلدين بباريس خلال فترة الرئيس إيمانويل ماكرون.
سياسة ماكرون تجاه المغرب والجزائر
منذ انتخابه رئيسًا لفرنسا للمرة الأولى حاول إيمانويل ماكرون أن يتجنب إغضاب الرباط والجزائر من خلال انتهاج سياسة متوازنة لتجنب إغضاب أي من البلدين المهمين بالنسبة لباريس، وتراوحت علاقة فرنسا من جهة والمغرب والجزائر من جهة أخرى، بين الجمود لفترات والانفراج الحذر في أحيان أخرى.
بعد انتخابه عام 2017، اختار ماكرون المغرب ليكون أول بلد عربي يزوره، وبينما كان يسعى لجعل الجزائر محطته الثانية مباشرة بعد زيارة الرباط، إلا أنه فشل في إقناع المسؤولين الجزائريين باستقباله وفضلوا أن يزورهم في وقت لاحق وهو ما تمَّ فعلاً في أواخر 2017.
بعد مرور 5 سنوات، أعيد انتخاب ماكرون لفترة ثانية في شهر أبريل/نيسان 2022، وعلى عكس الفترة الأولى، فإنَّ ماكرون زار الجزائر بعد أشهر من فوزه بالرئاسة، فيما لا تزال زيارته إلى الرباط معلقة في ظل أزمة بين البلدين بدأت تخف حدتها مؤخرًا.
خلف الصورة الوردية التي تحاول باريس تسويقها بشأن سياسة فرنسا مع المغرب والجزائر، هناك مصالح خاصة تحرك باريس مرتبطة أساسًا بالجانب الاقتصادي وكيف يمكن للشركات الفرنسية أن تستفيد من البلدين دون أن تخسر أحدهما.
فحتى عندما يتعلق بملف الصحراء الأهم بالنسبة للمغرب، فإنَّ الهاجس الذي يحرك “دعم باريس للطرح المغربي” هو اقتصادي بالدرجة الأولى، وخير مثال على ذلك عندما أعرب وزير المالية الفرنسي عن استعداد فرنسا للمشاركة في تمويل خط كهرباء يربط مدينة الدار البيضاء المغربية ببلدة الداخلة في الصحراء الغربية.
ولا يختلف الوضع بالنسبة للجزائر، فرغم توتر العلاقات مع باريس فإنَّ صادرات الطاقة الجزائرية ارتفعت بشكل ملحوظ خلال عام 2023، وفق ما كشفته أرقام رسمية.
وبينما كانت الرباط وباريس تنسقان من أجل تنظيم زيارة ماكرون إلى المغرب خلال الأشهر المقبلة، وكانت فرنسا تستعد لاستقبال الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، جاءت الانتخابات التشريعية لتؤجل كل تلك المخططات، في انتظار تشكيل حكومة جديدة يسارية قد تكون لها مواقف متباينة بشأن علاقة باريس بكل من الرباط والجزائر.
قضية الصحراء تقسم “”الجبهة الشعبية الجديدة”
قبيل يوم واحد من الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، قالت صحيفة ” Le Monde ” الفرنسية السبت 6 يوليو/تموز 2024، إنه في حال نجح “التجمع الوطني” اليميني المتطرف وتصدر الانتخابات ” فإنه سيعترف بمغربية الصحراء”، فماذا عن تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة؟”
خلال زيارته إلى المغرب خلال شهر مايو/أيار 2023، عقب الزلزال المدمر الذي ضرب منطقة الحوز وسط المملكة، نقلت وسائل إعلام تصريحات لزعماء حزب “فرنسا الأبية” أحد المكونات الرئيسة لتحالف “الجبهة الشعبية الجديدة”، عبر فيها عن دعمه لمقترح المغرب بشأن قضية الصحراء الغربية.
ميلونشون المولود بمدينة طنجة المغربية عام 1951، زار منطقة الزلزال واطلع على عمليات الإنقاذ ومساعدة الضحايا، وأدلى بتصريحات انتقد فيها “التعالي” الذي تمارسه فرنسا في علاقاتها مع بعض الدول، ودعا حينها فرنسا لإنهاء خلافها الدبلوماسي مع المغرب.
كما أشاد ميلونشون بمقترح الحكم الذاتي المغربي لحل نزاع الصحراء، وقال بأنه لاحظ حدوث تغيرات في ملف الصحراء، بإعلان الولايات المتحدة إسرائيل وإسبانيا لمواقف داعمة للمغرب، معربًا عن أمنيته بأن تفهم فرنسا ذلك جيدًا، وأن لا تجعل من النزاع قضية للمشاحنة مع المغرب”.
لكن داخل حزب “فرنسا الأبية” نفسه الذي يترأسه ميلونشون، توجد أصوات معارضة لموقف رئيسه من قضية الصحراء، وقد عبرت عن ذلك صراحة عضو البرلمان الفرنسي عن الحزب، ماتيلد بانو، عندما شاركت عام 2019 بمسيرة داعمة لـ”البوليساريو” في باريس، ودعمت في تغريدة “حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير.”
ويبرز أيضًا موقف الحزب الشيوعي الفرنسي أحد مكونات تحالف “الجبهة الشعبية الجديد”، إذ أن موقفه كان دائمًا مؤيدًا للطرح الذي تتبناه جبهة البوليساريو الجزائر بضرورة منح “الاستقلال للجمهورية الصحراوية، ومنح الصحراويين حق تقرير مصيرهم.”
كما أن من شأن أي اعتراف فرنسي صريح بدعم المقترح المغربي لحل قضية الصحراء المتمثل في الحكم الذاتي، وبالتالي الاعتراف بمغربية الصحراء، من شأنه أن يغضب حكام “قصر المرادية” في الجزائر التي تعتبر الداعم الأساسي لجبهة البوليساريو الانفصالية منذ تأسيسها قبل 51 عامًا.
ماذا عن ملف المهاجرين غير الشرعيين؟
في برنامج الانتخابي ركز تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” اليساري على ملف الهجرة، وجاء بتدابير مغايرة كليًا لما انتهجه الرئيس ماكرون أو روج له “التجمع الوطني” اليميني المتطرف، وهو ما من شأنه أن يطمئن المسؤولين في المغرب والجزائر اللذين انتقدا مرارًا تعامل باريس مع مواطنيها المقيمين بطريقة غير شرعية في فرنسا.
ومما جاء في برنامج التحالف اليساري الذي يستعد للإمساك بالسلطة في فرنسا فيما يتعلق بالمهاجرين، إلغاء قانون “دارمانين” للجوء والهجرة، والذي تم إقراره في يناير 2024. والذي منح السلطات المزيد من الصلاحيات من أجل تسريع إجراءات ترحيل بعض المهاجرين.
كما يسعى تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” إلى ضمان الدعم الاجتماعي وترخيص العمل لطالبي اللجوء، وتسهيل الحصول على التأشيرات، وتسوية أوضاع العمال والطلاب وأولياء أمور أطفال أجانب ملتحقين في المدارس، واعتبار تصريح الإقامة لمدة 10 سنوات كتصريح إقامة مرجعي.
إضافة إلى إنشاء قنوات هجرة قانونية وآمنة، لتستبدل الطرق غير القانونية التي تستغلها عصابات تهريب المهاجرين، ووضع حد للإجراءات المهينة في دراسة طلبات اللجوء، وتحسين ظروف استقبال المهاجرين في جزيرة مايوت.
إلى جانب إنشاء وكالة إنقاذ للمهاجرين في البحر والبر، في انتظار إنشائها على المستوى الأوروبي، وإنشاء صفة “نازح بسبب المناخ”، والتي ستسمح للأشخاص الذين نزحوا من بلدانهم بسبب تدهور المناخ والجفاف وارتفاع درجات الحرارة، بالحصول على وضع قانوني في فرنسا.
وأعلن تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” عزمه مراجعة ميثاق الهجرة الأوروبي الخاص باللجوء، والذي تم تبنيه في أبريل الماضي. وضمان الحصول على المساعدات الطبية الحكومية “AME”، والتي كان ينوي اليمين المتطرف حذفها، فيما كان ينوي المعسكر الرئاسي “إصلاحها”.
إضافة إلى ضمان الحقوق الكاملة للأطفال المولودين في فرنسا، وتسهيل حصولهم على الجنسية الفرنسية، إذ تسعى “الجبهة الشعبية الجديدة” إلى تطبيق “الحق في الأرض” بشكل المبسط: “كل طفل يولد في فرنسا يصبح فرنسيًا تلقائيًا، بغض النظر عن جنسية والديه”.
ملف الذاكرة حاسم في العلاقة مع الجزائر
خلال شهر مايو/أيار 2024، أكد الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، أن ملف الذاكرة بين الجزائر والمحتل السابق في إشارة إلى فرنسا: ” لا يقبل التنازل والمساومة، ويجب معالجته بجرأة لاستعادة الثقة بين البلدين” على حد تعبيره.
تصريح تبون يبرز إلى أي مدى سيكون ملف الذاكرة حاسماً في رسم معالم العلاقات المستقبلية بين الجزائر والحكومة الفرنسية المقبلة التي سيقودها تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” اليساري، فهي كانت حاسمة أيضاً في العلاقة مع ماكرون وحكومته.
وأكد المحلل السياسي الجزائري محمد بوشيبة أن العلاقات ستستمر على نفس المسار، مشيرًا إلى أنها كانت ستتأثر جداً لو فاز اليمين المتطرف بالنظر إلى مواقفه التاريخية المتطرفة من العلاقات مع الجزائر.
وأضاف بوشيبة في تصريح نقلته صحيفة “الخبر” الجزائرية: “مع خسارة اليمين المتطرف ستستمر على نفس النهج مع ماكرون، وحتى لو كانت الحكومة يسارية أو وسطية أو حتى يمينية لن تتأثر هذه العلاقة لأنها ترتبط بمصالح مشتركة”.
كما أشار المحلل السياسي الجزائري إلى موضوع الذاكرة الذي يجمع البلدين، إلى جانب الجالية الجزائرية الكبيرة الموجودة في فرنسا، خاصة أن لديها تأثيراً كبيراً على المشهد السياسي الفرنسي.
كما قالت صحيفة “الشروق” الجزائرية إن حزب “فرنسا الأبية،” لم يصدر عن أي من قياداته مواقف عدائية تجاه الجزائر، “بل وصل الأمر بأحد نوابه وهو سيباستيان ديلوغو، إلى رفع وتقبيل العلم الجزائري أمام البرلمان الفرنسي”.
وفيما يخص ملف الذاكرة وجرائم الاستعمار الفرنسي لجزائر، أشارت الصحيفة إلى أن مكونات “الجبهة الشعبية الجديدة” الفائزة بالانتخابات: “تتقاسم المواقف نفسها تقريباً بشأن الماضي الاستعماري لفرنسا في الجزائر وفي غيرها من المستعمرات السابقة”.
لكن رغم هذا الارتياح الذي عبرت عنه وسائل الإعلام في المغرب والجزائر وبعض الأحزاب اليسارية في المنطقة، بعد هزيمة اليمين المتطرف الفرنسي في الانتخابات التشريعية، لا يخفي حالة الحذر التي تسيطر على السلطات في البلدين، وفق ما ذكرته صحيفة “courrier international” الفرنسية.