بعد الفوز الكاسح الذي حققه حزب العمال برئاسة
كير ستارمر
في
الانتخابات البريطانية
، ظهرت تساؤلات بشأن تأثير الحرب الإسرائيلية على غزة في تلك الانتخابات؟
فكيف ستكون سياسة
بريطانيا
في ظل رئاسة كير ستارمر للحكومة بعد إعلان النتائج النهائية للانتخابات، التي أجريت الخميس 4 يوليو/ تموز؟ وما هي المواقف المتوقعة فيما يتعلق بالحرب على غزة، التي تدخل شهرها العاشر خلال يومين فقط؟
تاريخياً كان ينظر إلى حزب العمال اليساري في بريطانيا على أنه أكثر ميلاً لدعم حصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة، وكان زعيم الحزب السابق جيريمي كوربين تجسيداً لهذه النظرة، لكنه استقال من رئاسة الحزب عام 2020 في أعقاب خسارة الانتخابات العامة لصالح حزب المحافظين بزعامة بوريس جونسون.
ما موقف كير ستارمر من قضية فلسطين؟
هذه النظرة التاريخية ربما تجعل البعض يتصور أن الفوز الساحق الذي حققه حزب العمال برئاسة ستارمر في انتخابات 2024 قد يؤدي إلى تغيير في موقف لندن تجاه العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فما احتمالات هذا السيناريو؟
تثار الآن التكهنات بشأن طبيعة الحكومة التي سشكلها ستارمر، وما قد تعنيه هذه الحكومة العمالية بالنسبة للقضايا الداخلية؛ فالبعض يرى أن حكومة ستارمر قد تعني العودة إلى سياسات التقشف، بينما يرى البعض الآخر أن الحزب ليست لديه خطة ملموسة لإدارة البلاد. أما بالنسبة لقضية فلسطين عموما والحرب على غزة بشكل خاص، فلم يترك ستارمر مجالاً للتكهنات من الأساس.
فستارمر أعلن، منذ ترشحه لرئاسة الحزب قبل 4 أعوام، موقفاً واضحاً لا يحتاج للتأويل: “أنا أدعم الصهيونية دون قيد أو شرط. وسأعمل منذ اليوم الأول على محاربة معاداة الصهيونية دون هوادة”،
هكذا قال ستارمر
نصاً في فبراير/ شباط 2020، كاشفاً أن زوجته يهودية بولندية وأن أفراداً من عائلتها يعيشون في تل أبيب، ومؤكداً أنه سيأخذ زوجته وأولاده لزيارة إسرائيل لأول مرة في حياته.
وعمل ستارمر انطلاقاً من هذه التصريحات منذ تولى رئاسة حزب العمال خلفاً لكوربين، الذي كانت مواقفه من القضية الفلسطينية واضحة وداعمة لحقوق الفلسطينيين المشروعة، وهو ما كان حزب المحافظين يوظفه على أنه “انتشار معاداة السامية في جنبات حزب العمال”.
خليفة جيريمي كوربين “صديق إسرائيل”
من هذا المنطلق، عمل ستارمر على استمالة اللوبي اليهودي في المملكة المتحدة، وأمر بإجراء تحقيق داخلي للكشف عما زعم أنه “تفشي لمعاداة السامية” خلال حقبة كوربين، وعندما نشرت نتائج ذلك التحقيق واعترض عليها كوربين بشدة، عاقبه ستارمر بمنع ترشحه للانتخابات تحت راية حزب العمال، فاستقال رئيس الحزب السابق وقرر الترشح كمستقل في هذه الانتخابات.
وعندما اندلعت الحرب على غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، سارع
ريشي سوناك
رئيس الحكومة وقتها وزعيم حزب المحافظين إلى التعبير عن دعمه المطلق لإسرائيل وزارها للتعبير عن ذلك الدعم، الذي اتخذ جميع الأشكال العسكرية والسياسية.
لكن ستارمر كان أكثر دعماً لإسرائيل ووصل الأمر إلى حد
موافقته
على أن تحرم دولة الاحتلال أكثر من 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة من الماء والطعام والكهرباء وأبسط مقومات الحياة، معتبراً أن تلك الانتهاكات الفاضحة للقانون الدولي “دفاعاً عن النفس”.
لكن كما أن جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين لم تبدأ يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كذلك الدعم المطلق الذي يقدمه ستارمر للاحتلال لم تكن شرارته أحداث ذلك اليوم. فالرجل الذي يعمل محامياً حقوقياً في الأساس لم ينبس ببنت شفة بشأن القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية والتي تتهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة.
لكن حتى في أبريل/ نيسان 2022 عندما وجه صحفي سؤالاً إلى كير ستارمر بشأن موقفه من التقرير الجنائي الصادر عن منظمة العفو الدولية والذي خلص إلى أن
إسرائيل دولة فصل عنصري
، رد المحامي الحقوقي قائلاً دون تردد إنه “يرفض مخرجات هذا التقرير شكلاً ومضموناً”.
هل فاز حزب العمال بسبب تغيير موقفه من إسرائيل؟
ترسم هذه المعطيات صورة لحزب العمال، الذي كانت له بعض المواقف المساندة أحياناً للفلسطينيين، لكن ستارمر قلب هذه الصورة الذهنية المفترضة، فهل يعني هذا أن موقفه الداعم بشكل مطلق لإسرائيل لعب دوراً ما في هذا الفوز الكاسح؟
لا أحد يمكنه الجزم بإجابة محددة على هذا السؤال، والسبب هنا بعض المؤشرات التي رشحت من هذه الانتخابات نفسها، وهذه أبرزها:
-
فاز جيريمي كوربين، رئيس حزب العمال السابق، بمقعده في مجلس العموم بعد مواجهة ساخنة ضد مرشح الحزب وبفارق كبير من الأصوات، في دائرة مثلت فيها قضية “الحرب على غزة” العنوان الأبرز، بحسب تقرير لشبكة
سكاي نيوز
البريطانية. - احتفظ كوربين بمقعده عن دائرة إسلينغتون نورث بعد ترشحه كمستقل، حيث حصد زعيم حزب العمال السابق فوزاً بأكثر من 24 ألف صوت، مقارنة بمرشح حزب العمال برافول نارغوند، الذي حصل على أكثر من 16 ألف صوت.
-
“القلق بشأن غزة يخفي بريق فوز العمال بالانتخابات”، تحت هذا العنوان جاء تقرير لوكالة
بلومبيرغ
، يلقي الضوء على خسارة الحزب لبعض المقاعد بصورة صادمة كونها معاقل تقليدية للعمال، حيث حصد المستقلون تلك المقاعد بشكل أساسي بسبب موقفهم الداعم لغزة. من هؤلاء الخاسرين كان جوناثان أشوورث، وزير في حكومة الظل العمالية، حيث خسر مقعده في دائرة ليسستر ساوث لصالح أحد المرشحين المستقلين الداعمين لغزة.
وبحسب بلومبيرغ، مثل موقف ستارمر من الحرب على غزة القضية الرئيسية بين المسلمين في بريطانيا بشكل خاص، وهو ما كان سبباً مباشراً في خسارة مقاعد في الدوائر التي تتواجد فيها نسبة مرتفعة من الناخبين المسلمين.
هل يواصل العمال دعم إسرائيل؟
“لا يمكن لحزب العمال أن يغض الطرف عن خسارة أصوات الداعمين لغزة”، تحت هذا العنوان جاء تقرير صحيفة
الغارديان
البريطانية، يرصد كيف استغرق الحزب سنوات حتى ينتبه إلى حقيقة خسارته لدعم “الجدار الأحمر (طبقة العمال والحركات النقابية)، ويحذر من أنه على الحزب أن يبدأ “اليوم” في إصلاح العلاقات مع داعمي غزة.
فعلى مدى سنوات، اعتقد كثير من المعلقين والمحللين أن نجاح جورج غالاواي – النائب العمالي الداعم لفلسطين والمنتقد لإسرائيل – في الانتخابات التكميلية في فبراير/ شباط الماضي في دائرة روكديل لم يكن سوى “حالة فردية” من الصعب أن تتكرر.
لكن نتائج بعض الدوائر في هذه الانتخابات، التي فاز بها حزب العمال باكتساح، تشير إلى خطأ هؤلاء المعلقين والمحللين، وأحد ضحايا هذه الحسابات الخاطئة وربما أبرزهم هو أشوورث، الذي على الأرجح كان يتوقع أن يكون ضمن التشكيل الوزاري هذا الأسبوع، لكنه خسر مقعده لصالح شوكات آدمالداعم لغزة بحسب الغارديان.
خسرت كيت هوليرن (عن حزب العمال) في دائرة بلاكبيرن بفارق أقل من مائتي صوت لصالح المرشح المستقل عدنان حسين، وفي دائرة دوسبيري وباتلي، خسرت هيثر إقبال – وهي مستشارة سابقة في حزب العمال – بفارق أكثر من 7 الاف صوت لصالح إقبال محمد، مرشح مستقل ترشح أيضاً على قضية غزة. وفي بيرمنغهام، خسر مرشح العمال خالد محمود بصورة ضخمة للغاية لصالح مرشح مستقل آخر هو أيوب خان، وكلمة السر أيضاً “غزة”. هناك إذن 5 مرشحين مستقلين فازوا على حساب مرشحي حزب العمال بسبب دعم غزة.
تصويت عقابي لحزب المحافظين
بحسب تقرير مجلة
Time
، لا يمكن استبعاد “تأثير غزة” على هذه الانتخابات التي خسر فيها حزب المحافظين برئاسة ريشي سوناك بصورة لم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية، إذ يعد التصويت العقابي أحد أبرز ملامح هذه الانتخابات أيضاً.
بشكل عام، لم تكن الحرب على غزة تمثل ملفاً رئيسياً في هذه الانتخابات، لكنها كانت القضية المفصلية في عدد من الدوائر، حقق فيها مرشحون مستقلون انتصارات على حساب مرشحي حزب العمال، بينما لم تعرض مرشحو المحافظين في تلك الدوائر لهزائم مخجلة.
وبحسب أغلب المراقبين، لا يعني ذلك أن الحرب على غزة هي فقط قضية المسلمين في بريطانيا، ففي بعض الدوائر التس حسمت لصالح المستقلين، لا تزيد نسبة المصوتين المسلمين عن 15% من الناخبين. ومع ذلك، ليس هناك شك في أن نسبة الإقبال على هذه الانتخابات قد انخفضت إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر من قرن من الزمان، لكن الحرب على كانت غزة أحد أكبر العوامل الدافعة للجزء الأكثر تحفيزاً من الناخبين في بعض الدوائر، بحسب الغارديان.
لكن الصراع في الشرق الأوسط لا يشكل مصدر قلق لمجموعة سكانية بعينها، ومن المثير للدهشة أن هجران المجتمع الإسلامي في بريطانيا لحزب العمال يشبه انهيار “الجدار الأحمر”. الخلاصة من ذلك هو أنه من غير المتوقع أن تغير حكومة حزب العمال برئاسة كير ستارمر من دعم إسرائيل، على الرغم من أن بعض مؤشرات التصويت في الانتخابات نفسها ترسم صورة مختلفة إلى حد ما، بحسب كثير من تقارير التغطية الإعلامية لانتخابات عودة العمال إلى الحكم في بريطانيا.