صحة

أحدنا يستمتع بروائح الورود والعطور وآخر لا ينجذبُ لها.. دراسات تؤكد: العوامل الجينية و النفسية تؤثر على حاسة الشمّ لدينا

كشفت دراسة حديثة أنه على الرغم من وجود بعض أوجه التشابه بين البشر من مختلف الثقافات في تمتعهم بالروائح، إلا أن العوامل الثقافية والبيئية تؤثر بشكل كبير على كيفية إدراك الروائح.

وفي حين يتمتع بعض الأشخاص بروائح مثل الزهور العطرية أو رائحة القهوة الطازجة، حيثُ يمكن أن تكون هذه الروائح مثيرةً للاسترخاء وتعزز شعور الراحة لديهم. قد يشعر بعض الأشخاص الآخرون بالانزعاج من روائح مثل العطور القوية أو حتى بعض أنواع الأزهار بسبب حساسيتهم الشديدة تجاهها.

وتُعرّف الرائحة بأنّها الإحساس الناتج عن استنشاق المواد الكيميائية المتطايرة التي تنتج عن مواد معينة. تتفاعل هذه المواد الكيميائية مع المستقبلات الموجودة في الأنف، ما يؤدي إلى إرسال إشارات إلى الدماغ ليتم تفسيرها كرائحة معينة.

فكيف تؤثر العوامل البيئية على استقبال الروائح؟ وما هو تأثير التفاوت الجيني في استقبالنا لها؟ وما هو تأثير الحالة النفسية على إدراكنا لها؟


تأثير العوامل الفطرية والثقافية على إدراك الروائح

وأظهرت الدراسة أن العوامل الفطرية والتجارب الثقافية يمكن أن تؤثر في كيفية إدراكنا للروائح. ومن خلال مقارنة تصنيفات الروائح الشائعة عبر مجموعات ثقافية مختلفة، سعى الباحثون إلى تحديد ما إذا كانت تفضيلاتنا تتأثر بشكل أكبر بالخصائص المتأصلة للروائح أو بالسياقات الثقافية والبيئية التي نختبرها فيها.

شملت الدراسة 582 مشاركاً من خمس مجموعات ثقافية وبيئية متنوعة: الهادزا من تنزانيا، والتسيماني من بوليفيا، واليالي من غينيا الجديدة، والسكان في المناطق الصناعية في بولندا وماليزيا، ما يمثل مجموعة بشرية من أنماط الحياة المتنوعة بدءاً من الصيد وجمع الثمار وصولاً إلى سكان المناطق الحضرية الصناعية، وقد أتاحت هذه العينة المتنوعة للباحثين فحص تأثير السياقات الثقافية والبيئية المختلفة على إدراك الروائح.


تم عرض 15 عينة من الروائح على المشاركين، شملت روائح مألوفة مثل الموز، القهوة، والقرفة، وأخرى أقل شهرة مثل الجلود والتربنتين. وتم اختيار هذه الروائح لتغطي مجموعة من الروائح الطيبة وفقاً للمعايير الغربية.

قام المشاركون بتقييم كل رائحة بناءً على المتعة والألفة. استخدم كل من الهادزا ويالي مقياساً من ثلاث نقاط للتقييم، بينما استخدم الماليزيون، البولنديون، وقبيلة تسيماني مقياساً من خمس نقاط، حيث كانت الحدود القصوى لكلّ مقياس تعبّر عن عدم تقبلهم للرائحة أو عن انجذابهم لها.

وكشفت الدراسة عن اختلافات كبيرة في كيفية تقييم المشاركين من ثقافات مختلفة لمتعة الروائح المتعدّدة. أوضحت هوية الروائح جزءاً كبيراً من التباين في التقييمات، حيث كانت هوية الرائحة مسؤولة عن 14% من التباين. بالمقارنة، أوضح اختلاف الثقافة بين المشاركين 7% فقط من التباين، ما يشير إلى أن التأثير الأكبر على تقييمات الشعور بالمتعة كان ناتجاً عن خصائص الروائح نفسها بدلاً من الاختلافات الثقافية وحدها.


التعرض المتكرر للرائحة يؤثر على ردود أفعالنا تجاهها

تشير النتائج إلى أن الإلمام بالروائح يُعتبر أقوى مؤشر على مدى الشعور بالمتعة، حيث يفسر هذا العامل حوالي 37% من التباين في التقييمات.

يدل هذا على أن المشاركين يميلون إلى تصنيف الروائح المألوفة بأنها أكثر متعة بالنسبة لهم. على سبيل المثال، صنف الهادزا الروائح كأقل متعة، يليهم الماليزيون، والتسيماني، واليالي، والبولنديون. تبين نتائج التحليل أن تضمين التعرّض المتكرّر للروائح يُظهر اختلافات أكبر في تقييمات المتعة بين الروائح المختلفة، ما يبرز دور التعرض الثقافي في هذه التفضيلات.


وأظهرت الدراسة أيضاً أن للألفة تأثيراً كبيراً على تصنيفات الرائحة الأكثر متعة، مثل الخوخ والفراولة والقهوة، مقارنة بالروائح الأقل متعة، مثل الزبدة  والعشب. تؤكد هذه النتائج أهمية التعرض المتكرر للروائح في الحياة اليومية في تشكيل ردود الفعل الإيجابية تجاهها.


ما هو تأثير التفاوت الجيني؟

وتشير دراسات أخرى إلى أن كل فرد لديه نسبة كبيرة من الاختلافات في قدرته على استشعار مختلف الروائح، ما يعكس التنوع الوراثي في مستقبلات الشم.

نحن نتفاعل مع الرائحة باستخدام مستقبلات شم في أنوفنا، حيث لدينا أكثر من 400 نوع من هذه المستقبلات التي تفتح أبواباً لمعلومات متعددة حول الروائح التي نشمها، من الرائحة نفسها إلى قوتها وجاذبيتها بالنسبة لنا.

تؤثر الاختلافات الفطرية في هذه المستقبلات على كيفية تفاعلنا مع الرائحة، ما يؤدي إلى اختلافات واضحة في الإدراك الشمي. يمكن مقارنة هذه الظاهرة بعمى الألوان في الرؤية، حيث يؤدي التباين الوراثي في المستقبلات الشمية إلى اختلافات في التفاعل مع الروائح.

وتعدّ الاختلافات الجينية في عائلة مستقبلات الشم شائعة، حيث إن معظم الأشخاص يختلفون عن بعضهم بنسبة تقارب 30% في وظيفة مستقبلاتهم الـ400 تقريباً، هذا يعني أن كل فرد يتفاعل مع العالم الشمي بطريقة فريدة، تشبه بصمة أنفه الشخصية.


تقدّم السن وتأثيره على استقبال الرائحة

بمرور الوقت، يتأثر استقبالنا للرائحة بشكل كبير. فعادةً ما تتأثر حاسّة الشمّ مع تقدم العمر، تُظهر دراسة حديثة أن أكثر من 75% من الأشخاص الذين تجاوزوا سن الثمانين يبدون ضعفاً كبيراً في حاسة الشم، وتنخفض هذه الحاسّة لديهم بشكل ملحوظ بعد العقد السابع من العمر.

وتوجد عدة نظريات تفسر سبب تدهور حاسة الشم مع تقدم العمر، بما في ذلك النقص في عدد الألياف في البصلة الشمية والتدهور العام في الجهاز العصبي المركزي الإدراكي ووظائف المعالجة.

تقترن هذه الظواهر بتقدم العمر بشكل عام، حيث تعاني الخلايا العصبية المستقبلية للمستقبلات الشمية من موت الخلايا المبرمج بمعدل أساسي. بالإضافة إلى ذلك، تؤثر بعض الأمراض العامة مثل أمراض الكبد وبعض أنواع السرطانات غير المتعلقة بالأنف والأذن والحنجرة على وظيفة الشم.

يُعزى تدهور حاسة الشم المرتبط بالعمر أيضاً إلى الضعف الإدراكي المعتدل وأمراض مثل الزهايمر، حيث تشير الدراسات إلى وجود خلل في حاسة الشم لدى مرضى الزهايمر قبل ظهور الأعراض السريرية.


ما هو تأثير الحالة النفسية على استقبالنا للرائحة؟

في دراسة أخرى أجريت عام 2007، تمت مراجعة تأثير العواطف على حاسة الشم. شاهد المشاركون صوراً عاطفية ومحايدة، وبعد ذلك طلب منهم شم ثلاثة أنواع مختلفة من الروائح وتحديد الروائح التي كانت مختلفة.


وجد الباحثون أن الذكور بشكل خاص كانوا أكثر قدرة على استشعار الرائحة بشكل أفضل بعد مشاهدة الصور غير السارة، وأنهم قيّموا الروائح بأنها أكثر كثافة بعد مشاهدة الصور الممتعة. يوضح ذلك كيف يمكن أن تؤثر الحالة العاطفية على إدراكنا للروائح، حيث يزداد التركيز على الرائحة الإيجابية في حالات السعادة، ما يعزز استجابتنا لها بشكل عام.

ويتفاعل نظام الشم مع النظام العاطفي في الدماغ، ما يؤثر على الأداء العاطفي والتفاعل مع البيئة بشكل صحيح. على سبيل المثال، يُشير البحث إلى وجود علاقة بين خلل حاسة الشم واضطرابات مثل الاكتئاب الشديد والفصام، ما يظهر أهمية حاسة الشم في تقييم وتفسير البيئات المحيطة بنا بشكل صحيح.