يقول الجيش الإسرائيلي إنه ينوي إنهاء القتال في غزة، لكن دون التوصل إلى صفقة رهائن أو تدمير قدرات حماس. وتقول صحيفة هآرتس إن السؤال الرئيسي سيكون الآن حول كيفية إقناع الجمهور الإسرائيلي بأن الحكومة والجيش قد حققا أهدافهما خلال الحرب وانتصرا على حماس التي لم تُهزم بالكامل بعد، وما زال في يدها أكثر من 120 أسيراً في غزة.
وبحسب الصحيفة٬ فإن المناقشة التي أجراها يوم الأحد 30 حزيران/يونيو 2024 رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع وكبار ضباط الجيش الإسرائيلي في القيادة الجنوبية٬ تنذر بنهاية وشيكة للمرحلة الأكثر كثافة من الحرب في قطاع غزة. ومن الآن فصاعداً أصبح الاتجاه أكثر وضوحاً: تقليص عدد القوات في غزة، والانتقال إلى نظام الغارات على أهداف حماس هناك، ونقل القوات إلى الحدود الشمالية٬ حيث يستمر حزب الله بتهديد المستوطنات الشمالية.
الحرب ستنتهي ولم تحقق أهدافها.. وهذه خطة الجيش الإسرائيلي
يقول الجيش الإسرائيلي إنه سيظل يحتفظ بقوات احتلال في ممر نتساريم الذي يتعرض لهجمات مميتة، ويفصل بين شمال وجنوب غزة. بالإضافة إلى ممر فيلادلفيا، الذي يمتد على طول الحدود مع مصر. لكن العملية في رفح سيتم الإعلان قريباً عن انتهائها٬ دون تفكيك قدرات كتائب حماس هناك.
وزعمت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن تقديرات الجيش تشير إلى أن هناك حوالي 40 نفقا يمر تحت الحدود بين غزة ومصر في رفح، وزعمت أنه تم اكتشاف نصفها تقريبا. لكن الحقيقة هي أن المخابرات الإسرائيلية لا تعرف على وجه اليقين عدد الأنفاق الموجودة، وهي بالتأكيد لا تعرف عدد الأنفاق التي لم يتم اكتشافها بعد٬ كما تقول هآرتس.
وتنظر إسرائيل إلى ممر فيلادلفيا باعتباره أحد شرايين الحياة لحماس، أما الآخر فهو معبر رفح. وتزعم أنه يتم تهريب الأسلحة والسلع الأخرى عبرهما منذ ما يقرب من عقدين من الزمن. ولذلك تريد إسرائيل التوصل إلى اتفاقات مع مصر حول كيفية السيطرة على الممر قبل أن يخليه الجيش.
والأهم من مسألة الحاجز الذي تقول إسرائيل إنه سيتم بناؤه لمنع حفر المزيد من الأنفاق٬ هو السؤال عن نوع أجهزة الاستشعار التي سيتم تركيبها هناك. وتريد إسرائيل أجهزة استشعار خاصة بها هناك، حتى تتمكن من إرسال المعلومات مباشرة إلى الجيش وجهاز الأمن “الشاباك”، وبالتالي تقديم تحذير إذا تم حفر أنفاق إضافية.
وتقول هآرتس إن الرسالة التي يسعى وزير الدفاع يوآف غالانت ورئيس أركان الجيش هرتزل هاليفي إلى إرسالها هي أن “العملية ستنتهي في رفح بعد تدمير آخر كتيبة لحماس هناك وإخراجها عن الخدمة”.
حماس أثبتت قدرتها على إعادة بناء نفسها بسرعة كبيرة
لكن حماس لا تزال نشطة، وتعمل في شكل جديد، يعتمد على خلايا عديدة وحرب عصابات وإن كانت صغيرة. وعلى الرغم من إطلاق ما يقرب من 20 صاروخًا من خان يونس على مستوطنات الجنوب يوم الاثنين، إلا أن خطر إطلاق الصواريخ من غزة على جنوب ووسط إسرائيل قد انخفض بشكل كبير حتى الآن.
وتقول هآرتس إنه سوف يكون لزاماً على الجيش أن يستمر في قتال حماس، ولكن هذا سوف يتم وفق أسلوب “جز العشب” المستخدم في الضفة٬ حيث شن غارات متكررة على أهداف تابعة لحماس، واعتقال المقاومين وإرسالهم إلى للاستجواب٬ على حد زعم الصحيفة.
لكن تقول هآرتس٬ إن المشكلة هي أن هذه المهمة معقدة ويصعب على الجمهور استيعابها، خاصة في ضوء الأهداف الكبيرة التي تم تحديدها في بداية الحرب. علاوة على ذلك، ورغم الخسائر لا يبدو أن نتنياهو سيتخلى بشكل كامل بعد عن وعوده بتحقيق “نصر كامل” في غزة طاله أمده٬ وهو ما لا يتوافق مع ما يفكر فيه كل من غالانت وهاليفي.
منذ ما يقرب من أسبوع، يقوم الجيش الإسرائيلي بعمليات في حي الشجاعية شرق مدينة غزة. وهذه هي المنطقة التي دارت فيها معارك ضارية في الفترة من تشرين الثاني/نوفمبر إلى شباط/فبراير، في عمليتين منفصلتين تكبدت فيهما إسرائيل خسائر كبيرة.
ويقول اللواء السابع، الذي يعمل هناك الآن، إنه قاتل العشرات من خلايا المقاومة هناك التي تطلق الصواريخ المضادة للدبابات وتزرع الكمائن والألغام. وهذا يدل على قدرة حماس على إعادة بناء نفسها بسرعة كبيرة، أو على حقيقة أن الجيش الإسرائيلي لم ينجح في مهمته خلال عمليتيه السابقتين، على عكس ما قيل للجمهور ووسائل الإعلام. وقبل الدخول الأخير إلى الشجاعية، اندلع جدال في مقر القيادة الجنوبية٬ واجه فيه بعض الضباط صعوبة في فهم طبيعة المهمة التي تم تكليفهم بها للمرة الثالثة٬ كما يقول عامول هرئيل المعلق العسكري في صحيفة هآرتس.
أما رفح٬ فقد أصر نتنياهو على العملية هناك٬ رغم الاعتراضات الشديدة من إدارة بايدن، لأسباب سياسية داخلية بالدرجة الأولى. وقد ضغط عليه الجناح اليميني المتطرف في حكومته لكي يأمر الجيش الإسرائيلي باحتلال المدينة وتدميرها.
ونظراً للقيود التي فرضها الأميركيون على الأسلحة وانتقاداتهم الأخرى، كان القرار النهائي هو إجراء عملية أصغر (وهو أمر لم يتم شرحه للعامة قط). وتم إطلاق العملية في منتصف شهر مايو/أيار بفرقة واحدة بدلاً من اثنتين، بعدما تم تهجير أهالي المدينة المكتظة باللاجئين.
ومعظم الخسائر التي تكبدها الجيش الإسرائيلي في هذه العملية كانت بسبب الهجمات من مسافة بعيدة والتي استهدفت نقاط ضعف القوات. قالت والدة الجندي الذي قُتل في رفح الأسبوع الماضي، إنها سمعت ابنها وهو يصيبه قناص فلسطيني أثناء حديثه معها على هاتفه الخلوي. وهذه الكارثة تكرر وتشهد على المشاكل المتعلقة بفرض الانضباط التشغيلي لجنود الجيش٬ حيث لا يجوز استخدام الهواتف المحمولة داخل منطقة القتال في مكان معرض لنيران العدو٬ تقول هآرتس.
وحتى بعد الانسحاب الجزئي من رفح، ستبقى الأسئلة حول ما إذا كان قد تم تحقيق نصر على حماس هنا أم لا لدى الإسرائيليين. ولا يزال التأييد لحماس بين سكان غزة مرتفعاً جداً. واحتفظت حماس ببعض قدراتها التنظيمية والحكومية، ولا تزال تحتفظ بجزء من قدراتها العسكرية.
وهناك مشكلة أخرى تتعلق بالأسرى الإسرائيليين الذين لا زالوا في قبضة حماس. لفترة طويلة، زعمت الحكومة الإسرائيلية وكبار ضباط الجيش أن الضغط العسكري على حماس من شأنه أن يساعد في إجبارها على تخفيف مواقفها التفاوضية وإخراج الأسرى. لكن من الناحية العملية، لم يتم التوقيع على أي اتفاق جديد منذ انهيار الاتفاق الأول في الأول من ديسمبر/كانون الأول وقتل العديد من الأسرى٬ ولا تزال جثثهم تحتفظ بها حماس.
وعلى الرغم من الجهود الأمريكية القطرية المتجددة لبدء المفاوضات، فإن فرص التوصل إلى اتفاق تبدو ضئيلة حاليًا. ومن ثم، فإن الحكومة والجيش سوف يجدان صعوبة في تفسير سبب تقليصهما للعمليات العسكرية إلى حد كبير حتى مع عدم تقديم الحكومة أي مبادرات إضافية لتأمين إطلاق سراح الرهائن.
أما على الجبهة اللبنانية٬ فتقول الصحيفة العبرية إن الصورة الاستخباراتية غير واضحة لدى إسرائيل٬ وقد تزيد من التوتر لدى الجانبين. كما أن تبادل التهديدات في إسرائيل ولبنان وإيران لا يساعد في تهدئة الأعصاب. لكن من الجدير الانتباه إلى لهجة غالانت أصبحت متحفظة نسبياً فيما يتعلق بالقضية اللبنانية مؤخراً. وينبع هذا على الأرجح من التنسيق الإسرائيلي الأمريكي الذي يهدف إلى تمكين إدارة بايدن من القيام بمحاولة وساطة أخرى إذا تم تقليص حجم القتال في غزة.
فساد وإخفاق داخلي وفشل في إدارة المعركة
وعلى الهامش، وقع يوم الاثنين إخفاق آخر نموذجي في عهد نتنياهو٬ وذلك بعد إطلاق سراح مدير مستشفى الشفاء في غزة، الذي كان محتجزا في إسرائيل منذ نحو سبعة أشهر. وسارع “مهرج أمننا القومي”، إيتمار بن جفير، إلى تبادل الاتهامات مع العالم أجمع، بل وطالب بإقالة مدير الشاباك رونين بار، بعد أن تبين أن مدير المستشفى محمد أبو سلمية قد تم إطلاق سراحه بسبب ضيق المكان في السجون.
أحد الأسئلة التي غابت تماماً عن الجدل الإعلامي العاصف هو ما إذا كانت هناك أدلة كافية لمواصلة احتجازه، بما يتجاوز الشكوك العامة في إسرائيل بأن إدارة الشفاء تتعاون مع الجناح العسكري لحماس، الذي استخدم المستشفى لأغراض عسكرية. لكن الادعاءات التي أطلقتها إسرائيل حول تورط إدارة المستشفى في عمليات السابع من أكتوبر بدت غير جدية في ضوء إطلاق سراح أبو سلمية.
وعملياً، بن جفير أصبح غير القادر على إدارة أي شيء بجدية، باستثناء إفساد وتطرف الشرطة ومصلحة السجون٬ هو الشخص المسؤول بشكل أساسي عما حدث.
وعلى الرغم من أن مكتبه وإدارة السجون تلقوا مبلغًا ضخمًا من المال منذ أكتوبر/تشرين الأول لتمويل اعتقال الآلاف من المقاومين المشتبه بهم الإضافيين، إلا أنهم فشلوا تماماً في التعامل مع المشكلة. وكانت السجون مكتظة حتى آخرها٫ وفي الوقت نفسه، نشأت مشكلة خطيرة في القانون الدولي بسبب احتجاز الفلسطينين في ظروف مروعة في مركز الاحتجاز “سدي تيمان” أو “غوانتانامو إسرائيل”.
وقد حذر الشاباك مرارا وتكرارا من أنه بسبب هذه القيود، لن يكون هناك خيار سوى إطلاق سراح بعض المعتقلين والامتناع عن اعتقال مشتبه بهم آخرين في الضفة الغربية. لكن بن جفير ركز عمل وزارته على ما يهمه حقا: التصريحات الفارغة، والقيود التافهة على الظروف المعيشية للأسرى الفلسطينيين وتسليم الأسلحة لكل من يريدها من المستوطنين. في نهاية المطاف، هذه قضايا هامشية أمام الفشل في غزة٬ وأثبتت مرة أخرى، عدم الكفاءة الكاملة لهذه الحكومة الفاشلة، حيث يصطدم مختلف المسؤولين علناً مع بعضهم البعض.