“ماكرون انتهى فعلياً..”، كان هذا أحد أبرز نتائج الجولة الأولى من الانتخابات المبكرة التي دعا إليها الرئيس الفرنسي، فماذا يعني ذلك؟ وكيف قد يؤثر فوز اليمين المتطرف على الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو؟
بالنسبة لرئيس فرنسا البالغ من العمر 46 عاماً (إيمانويل ماكرون)، كانت الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية، التي جرت الأحد 30 يونيو/حزيران 2024، بمثابة إذلال شخصي له يشبه صعوده المذهل إلى الرئاسة قبل سبع سنوات رغم كونه وقتها غريباً تماماً على الساحة السياسية”، بحسب تقرير لمجلة بوليتيكو الأمريكية.
كان حزب التجمع الوطني، الذي يقوده اليمين المتطرف، قد حصد أكثر من 33% من أصوات الناخبين الفرنسيين في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية المبكرة، التي دعا إليها ماكرون نفسه بهدف التصدي لليمين المتطرف، حسبما قال.
نتيجة الجولة الأولى في انتخابات فرنسا
كانت وزارة الداخلية الفرنسية قد أعلنت، الاثنين 1 يوليو/ تموز، نتائج الجولة الأولى والتي حصد فيها حزب التجمع الوطني زعيم اليمين المتطرف وحلفاءه 33.15% من الأصوات، بينما جاء تحالف الجبهة الشعبية الجديدة (أحزاب أقصى اليسار) في المركز الثاني بعد أن حصل على 28% من أصوات الناخبين.
أما تحالف الوسط الذي ينتمي له الرئيس إيمانويل ماكرون فقد حل في المركز الثالث بعد أن حصد 20% فقط من الأصوات. بينما جاء في المركز الرابع حزب الجمهوريين (يميني محافظ) بحصوله على 10% من أصوات الناخبين.
وشهدت الجولة الأولى حسم السباق على 76 مقعداً فقط من أصل 577 مقعداً في مجلس النواب، وسيتم تحديد الفائزين بالمقاعد الـ501 المتبقية في الجولة الثانية التي ستجري في 7 يوليو/تموز.
وعلى رأس الملاحظات اللافتة للغاية تأتي نسبة المشاركة، التي جاءت مرتفعة بشكل استثنائي تجاوزت الـ65 في المئة، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
ماذا عن توقعات الجولة الثانية إذاً؟ قد ينال التجمع الوطني غالبية نسبية كبيرة في الجمعية الوطنية (البرلمان) وربما غالبية مطلقة، وفق توقعات ثلاثة مراكز بحثية متخصصة، حسبما أفاد موقع فرانس24 الفرنسي.
لماذا تعتبر هذه النتيجة هزيمة شخصية لماكرون؟
الرئيس الفرنسي كان هو من دعا إلى إجراء انتخابات مبكرة، بعد الهزيمة الكارثية التي تعرض لها على يد اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية التي جرت في يونيو/ حزيران الماضي، وكان يضع في ذهنه هدفاً واحداً: وقف ميل فرنسا نحو اليمين المتطرف في مسارها السياسي، لكن ما حدث هو العكس تماماً، بحسب تقرير بوليتيكو.
ماذا عن تأثير صعود اليمين المتطرف؟
فرنسا، ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا – بعد ألمانيا – والقوة الوحيدة المسلحة نووياً بين أعضاء الاتحاد الأوروبي أصبحت الآن أقرب من أي وقت مضى إلى تشكيل حكومة يمينية متطرفة للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، بعد النتائج القوية وتصدر حزب التجمع الوطني، بزعامة مارين لوبان ورئاسة جوردان بارديلا، المرحلة الأولى من الانتخابات.
وإذا ما أسفرت الجولة الثانية من التصويت، بعد أسبوع، عن أغلبية برلمانية لحزب التجمع الوطني – وتشير التوقعات إلى أن ذلك احتمال مرجح – فستواجه فرنسا أرضاً غير مطروقة، أي غموض وعدم وضوح رؤية؛ إذ ستحكم البلاد، على الأقل جزئياً، من قبل سياسيين منتمين لليمين المتطرف جعلوا أسمائهم متعاطفين مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويتعهدون بتفكيك الاتحاد الأوروبي وشن حرب لا هوادة فيها على الهجرة، إضافة إلى الانسحاب من حلف الناتو.
ورغم أن حزب التجمع الوطني بقيادة لوبان خفف مؤخراً بعضاً من مواقفه الحادة، إلا أنه يظل متشككاً بشدة في المواقف السياسية السائدة في الغرب، وبالتالي من شأن الفوز في هذه الانتخابات أن يوفر دفعة قوية لفرص مارين لوبان في الفوز بالرئاسة الفرنسية في عام 2027.
قال برونو كوتريس، المحلل السياسي في معاهد ساينس بو، لمجلة بوليتيكو: “يمكننا أن نقول بوضوح إن عملية إزالة السموم من التجمع الوطني وصلت إلى مراحلها النهائية”.
لقد فازوا في الانتخابات الأوروبية ثلاث مرات متتالية، وتأهلت مارين لوبان مرتين إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية؛ وأضاف كوتريس: “إذا فازوا في ثاني أهم انتخابات في فرنسا (الانتخابات البرلمانية)، فسيصبحون التيار السائد”.
هل يمكن إيقاف صعود اليمين المتطرف؟
الصدمة والرعب كانا العنوان الأبرز للساعات التي تلت إغلاق صناديق الاقتراع وبداية ظهور نتائج المرحلة الأولى، وكان حلفاء ماكرون يحاولون تحديد ما يجب عليهم القيام به في الأسبوع الذي يفصلهم عن الجولة الثانية الحاسمة.
فقد دعا الرئيس الفرنسي إلى تشكيل “تحالف ديموقراطي وجمهوري واسع” في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية في مواجهة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف: “تُظهر المشاركة الكبيرة في الدورة الأولى أهمية هذا التصويت بالنسبة إلى جميع مواطنينا، وإرادة تصحيح الوضع السياسي. في مواجهة التجمع الوطني، حان الآن وقت تحالف واسع (يكون) بوضوح ديموقراطياً وجمهورياً في الجولة الثانية”.
أما رئيس الوزراء الفرنسي، غابرييل أتال، فقد طالب بـ”عدم التصويت مطلقاً لليمين المتطرف” في الجولة الثانية، فهل تجد مطالباته صدى لدى الناخبين؟ استطلاعات الرأي، التي صدقت إلى حد كبير في الجولة الأولى، تجيب بالنفي على هذا السؤال.
زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، من جانبها، أكدت على أن “معسكر ماكرون تم محوه عملياً”، وقالت إن “الفرنسيين أظهروا إرادتهم لطي صفحة سبعة أعوام من حكم الازدراء والتآكل للرئيس إيمانويل ماكرون”، داعية الفرنسيين إلى منح حزبها التجمع الوطني “الغالبية المطلقة”.
أما رئيس حزب التجمع الوطني، بارديلا، فأعلن أنه يريد أن يكون “رئيساً للوزراء لجميع الفرنسيين”، مشدداً على أن “الشعب الفرنسي أصدر حكماً واضحاً”. ووصف هذه الانتخابات بأنها “الأكثر أهمية” في فرنسا منذ 60 عاماً. وقال أيضاً إن “الخيار أصبح واضحاً الآن، هناك طريقان مفتوحان أمام البلاد: الطريق الأسوأ مع التحالف اليساري الذي يمثل خطراً وجودياً، والطريق الذي يقوده التجمع الوطني في تحالف مع بعض فئات حزب الجمهوريين اليميني الذي يتزعمه إريك سيوتي”.
هل دفع ماكرون ثمن “تهوره” السياسي؟
يلقي أغلب المتابعين والمحللين باللوم على ماكرون نفسه في وصول الأمور لهذه الدرجة من عدم اليقين في فرنسا. إذ خسر مرشحو تحالفه في نصف الدوائر الانتخابية الفرنسية البالغ عددها 577، وبالتالي فمن المقرر أن يتقلص عدد كتلة ماكرون البرلمانية من 250 نائباً في البرلمان الذي قام بحله إلى أقل من 100 في الجمعية الوطنية. كما يواجه حلفاؤه الوسطيون ضغوطاً هائلة للانسحاب من السباق في العديد من الدوائر ونصح أنصارهم بالتصويت لصالح التحالف اليساري، الذي يضم متطرفين يساريين، في محاولة للتغلب على لوبان في الجولة الثانية.
ماذا حدث بعد نشر التوقعات الأولية لنتائج الجولة الأولى؟ تجمع آلاف المواطنين الفرنسيين في ساحة الجمهورية في باريس للاحتجاج على اليمين المتطرف. هذه المشاهد أعادت إلى الأذهان الاحتجاجات ضد جان ماري لوبان، والد مارين لوبان، بعد تأهله للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية عام 2002 كمرشح عن الحزب الذي كان يُعرف آنذاك بالجبهة الوطنية.
في ذلك الوقت، تحالفت الأحزاب والناخبون معًا ضد اليمين المتطرف، ووضعوا خلافاتهم جانبًا للتغلب على المرشح المتطرف بموجب سياسة عرفت باسم “الطوق الصحي”، لكن شتان الفارق بين المشهد السياسي، الفرنسي والأوروبي، آنذاك واليوم.
ففي هذه الانتخابات برز حزب “فرنسا الأبية” اليساري المتطرف وزعيمه جان لوك ميلينشون كعدو أكبر لمعسكر ماكرون “الوسطي” حتى من لوبان واليمين المتطرف، وذلك بعد عام كامل قضاه في صراعات داخل الجمعية الوطنية أو البرلمان المنحل. إذ أمضى ماكرون نفسه معظم هذه الحملة في انتقاد سياسات تحالف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري، الذي يضم أقصى اليسار، ووصفها بأنها “بشعة” ومدمرة لفرنسا.
لكن أكثر العلامات وضوحاً على كسر “الطوق الصحي” هذه المرة جاءت من حليف ماكرون ورئيس الوزراء السابق إدوارد فيليب، الذي دعا الناخبين صراحة إلى معارضة حزب التجمع الوطني وحزب ماكرون أيضًا.
ماكرون.. كيف انفض الجميع من حوله؟
برونو جانبارت، أحد منظمي استطلاعات الرأي في OpinionWay، قال لمجلة بوليتيكو: “بما أن اليسار جعل من ماكرون خصمه الأكبر، وأمضى ميلينشون وماكرون أشهراً في معركة سياسية ضخمة، فمن الصعب إحياء الطوق الصحي. لا نعرف أيضًا ما إذا كان ذلك سيحدث فرقًا لدى الناخبين.” وأضاف جانبارت أن الناخبين الوسطيين يمتنعون في كثير من الأحيان عن التصويت عندما يُتاح لهم الاختيار بين أقصى اليسار وأقصى اليمين.
كان ماكرون قد قام بتقليص خياراته بشدة عندما وضع حزب “فرنسا الأبية” اليساري -القوة المهيمنة في تكتل الجبهة الشعبية الجديد- على قدم المساواة مع اليمين المتطرف فيما يسميه “التطرف” في البلاد. كما يتهم ماكرون حزب “فرنسا الأبية” بمعاداة السامية، وهي اتهمات يرفضها الحزب بشدة ويؤكد في الوقت نفسه على انتقاد الحرب على غزة وما يرتكبه جيش الاحتلال من جرائم بحق الفلسطينيين.
تشير هذه المعطيات إلى أن ماكرون قد تسبب في إبعاد أغلب التيارات السياسية، كما فقد أيضاً شعبيته كرئيس على الرغم من فوزه بفترة رئاسية ثانية قبل عامين فقط. كان ماكرون قد فاز على ماري لوبان في جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية عام 2022، لكنه أقر بأن ذلك الفوز لم يكن تصويتاً لصالحه بقدر ما كان تصويتاً عقابياً لليمين المتطرف.
وبالتالي فإن أغلب المراقبين وصفوا إقدام ماكرون على حل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة بأنها “مقامرة”، نظراً للصعود الصاروخي لمعسكر اليمين المتطرف، وهو ما أظهرته نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي ألحق فيها حزب التجمع الوطني هزيمة نكراء بحزب ماكرون، وبالتالي جاءت خطوة الرئيس المفتقد للشعبية بمثابة المفاجأة للجميع، بمن فيهم حلفاؤه السياسيون أنفسهم، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.