ما زالت أصداء وفاة المئات من الحجاج المصريين خلال وقفة عرفة ويوم عيد الأضحى، تلقي بظلالها على اهتمامات الرأي العام في مصر والمملكة العربية السعودية أيضاً، مع استمرار ارتفاع أعداد الضحايا ووجود مفقودين لم يتم التوصل إليهم.
وفي ظل إجراءات سريعة هدفت القاهرة للتأكيد على أنها لن تسمح بتكرار ما حدث في الموسم الحالي من الحج، مع تورط شركات سياحة في نقل الحجاج لأداء مناسك الحج بطريقة غير شرعية عبر تأشيرات الزيارات والعمل التي تقدمها المملكة العربية السعودية.
وذكرت خلية الأزمة، التي أمر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بتشكيلها لمتابعة وإدارة الوضع الخاص بحالات وفاة الحجاج المصريين، في بيان السبت، أن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي “كلّف بسحب رخص 16 شركة سياحة تحايلت لتسفير الحجاج بصورة غير نظامية وإحالة مسؤوليها للنيابة العامة”.
وعود زائفة
يحكي أحد الحجاج المصريين العائدين من الحج لـ”عربي بوست” ما تعرض له أثناء السفر، موضحاً أنه “تمكن من أداء فريضة الحج بتأشيرة زيارة إلى المملكة دون الحصول على تأشيرة الحج”.
وقال المتحدث إنه قرر مقاضاة شركة السياحة التي سافر من خلالها لأداء مناسك الحج، وأنه التجأ لها بعد فشله في الحصول على تأشيرة حج عبر الجهات الرسمية المتمثلة في وزارة الداخلية التي تشرف على رحلات الحج المعروفة باسم “القرعة”، أو وزارة التضامن الاجتماعي التي تشرف على حج “الجمعيات الأهلية” أو شركات السياحة مع نفاد التأشيرات في وقت مبكر رغم ارتفاع أسعارها بصورة كبيرة.
وأضاف أنه حصل على وعد من أحد موظفي شركات السياحة قال له إنه يعتاد سنوياً على تسفير بعض المواطنين بتأشيرات زيارة إلى مدينة جدة السعودية ومنها إلى مكة المكرمة.
مشيراً إلى أن لديه تواصلاً مع شركات نقل سعودية تعمل في مجال رحلات الحج والعمرة تتولى عملية نقله إلى مكة للإقامة بإحدى الشقق الفندقية في منطقة العزيزية القريبة من جبل عرفات ومشعر منى.
وتابع: “دفعت مبلغ 120 ألف جنيه لأداء الفريضة ورغم أن هذا السعر قريب من سعر قرعة وزارة الداخلية لكني حصلت على وعود زائفة بأن الرحلة لن تختلف كثيراً، لكن ما حدث عقب وصولي إلى جدة كان أمراً مغايراً”.
وكشف المتحدث أنه جرى تسفيره في حافلة صغيرة إلى مكة قبل ثلاث أسابيع من وقفة عرفة، لكن من أطلقوا على أنفسهم لقب “المطوفين” في المملكة -وهم في الحقيقة سماسرة رحلات حج لجاليات مصرية وعربية تسعى لأداء الفريضة أثناء تواجدها في المملكة- طالبوهم بالبقاء في منازلهم وأداء فرائض الصلاة في أقرب مسجد دون الذهاب إلى الحرم المكي.
سيارة مواد غذائية تنقل الحجاج
يوضح الحاج أنه ظل لمدة أسبوعين داخل غرفة بها خمسة أسرة يتواجد بها ستة أفراد قبل أن تصل إليهم قوات الأمن السعودية التي ألقت القبض عليهم وقامت بترحيلهم إلى مدينة جدة مرة أخرى.
مشيراً إلى أنه خرج من مكة دون أن يأخذ حقائبه وملابسه، وظل لمدة أربعة أيام في مدينة جدة بإحدى البنايات قبل أن يعدهم العاملون بشركة السياحة المصرية بتسفيرهم مرة أخرى إلى مكة قبل وقفة عرفات، وهو ما حدث بالفعل غير أن ذلك كان عن طريق سيارة نقل كبيرة مخصصة لتبريد المواد الغذائية.
وأكد أن “السيارة كان بها ما يقرب من 100 حاج جرى تهريبهم مرة أخرى لكن ما حدث أن هؤلاء حينما خرجوا من السيارة كانت درجة الحرارة في يوم الجمعة وهو ليلة وقفة عرفة تتجاوز 50 درجة مئوية، وكان علينا أن نتواجد في الشوارع والطرقات وتنقلنا بين العديد من الخيام وتعرض الكثيرون لضربات شمس”.
وأكد المتحدث أن “هذه العملية تسببت في حدوث وفيات أثناء نهار يوم عرفة، ولم نحصل على أي رعاية صحية بل قمنا بالسير على الأقدام من جبل عرفات إلى مزدلفة وتواصل سقوط البعض من شدة التعب”.
وذكر أن “شركات النقل السعودية التي وعدتنا بأنها سوف تتكفل بإقامتنا في مكة هربت مرة واحدة ولم نتمكن من الوصول إليها وتداول البعض أنباء عن إلقاء السلطات السعودية القبض على أصحاب تلك الشركات”.
مشيراً إلى أن شركة السياحة المصرية تواصلت عقب انتهاء مناسك الحج مع شركات نقل سعودية أخرى وتولت عملية نقلنا إلى المدينة المنورة ومنها مرة ثالثة إلى جدة حيث العودة إلى مصر، وأن تلك الشركة تغلق أبوابها منذ عودته وهناك مواطنون تعرض ذووهم للوفاة حاولوا اقتحامها.
سماسرة سعوديون
ولا توفر السلطات السعودية لمن يسافرون بتأشيرة زيارة شخصية الخدمات الطبية التي تقدمها للحجاج، وبلغ عدد وفيات الحجاج هذا العام 1126، أكثر من نصفهم من مصر، ونُسبت أعداد كبيرة من الوفيات إلى الحر الشديد.
وتضمن تقرير توصيات خلية أزمة الحج قيام وزارة العدل المصرية بالنظر في إمكانية سداد شركات السياحة المتورطة غرامات لصالح أسر ضحايا الحج غير النظامي، مع إحالة الموضوع إلى النائب العام لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة.
كما تضمنت التوصيات التنسيق مع الجانب السعودي لإجراء تحاليل DNA للمتوفين مجهولي الهوية حتى يتم مطابقتها مع أسرهم داخل البلاد، وقيام وزارة الصحة المصرية بالتنسيق مع نظيرتها السعودية لمتابعة الحالات المرضية بالمستشفيات المختلفة، وبحث إمكانية إعادتهم حال استقرار حالتهم الصحية.
وقال مواطن مصري آخر أدى فريضة الحج هذا العام بطريقة غير شرعية أيضاً، إنه لجأ إلى أسلوب مغاير عن تأشيرة الزيارة؛ إذ إن أحد أصدقائه الذين يمتلكون شركة تعمل في مجال الإلكترونيات وعده بتأسيس شركة من خلال المنصات الرقمية السعودية على أن تكون هذه الشركة باسم زوجته.
وبالفعل نجح في ذلك ثم استخرج تأشيرة عمل لها إلى جانب تأشيرة زيارة له باعتباره مرافقاً لها، مشيراً إلى أن سماسرة سعوديين عملوا على تسهيل تلك الإجراءات دون الحاجة إلى شركات سياحة مصرية.
وأشار إلى أنه قام بأداء فريضة الحج دون مشكلات تذكر، وأن هناك شركات نقل سعودية تقوم سنوياً باصطحاب أصحاب تأشيرات العمل إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، وجرى تسكينهم في إحدى الخيام التابعة لجاليات عربية.
لافتاً إلى أن ما قام به أقدم عليه عدد قليل من الحجاج، وأن الأغلبية اتجهت إلى تأشيرة الزيارة وهؤلاء على الأغلب لم يتم توفير لهم أماكن للإقامة أو التنقلات، واضطر العديد من الحافلات لاصطحاب أفراد غير تابعين لها وتسبب ذلك في حالة تكدس أثناء الانتقال من عرفة إلى مزدلفة ومنها إلى منى.
وأكد أن ارتفاع أسعار الحج في الجهات الرسمية المصرية مقارنة بباقي البلدان العربية دفع المصريين لأن يبحثوا عن وسائل أخرى مخالفة، مشيراً إلى أن ثمن رحلة الحج السياحي تصل إلى 300 ألف جنيه أي ما يقرب من 6300 دولار، في حين أن أسعار الحج في غالبية الدول العربية لا تتجاوز 4000 دولار، أي أقل من 200 ألف جنيه، متهماً الحكومة المصرية بأنها تضاعف تكاليف الحج دون مبرر ودون الحصول على الخدمات المناسبة.
مكاسب هائلة من رحلات الحج غير الرسمية
ووفقاً لبيان من وزير الصحة المصرية، يبلغ إجمالي عدد البعثة المصرية الرسمية 50752 حاجاً، وبلغ إجمالي عدد الوفيات بها 28 وفاة، وهي نسبة تعد الأقل على مدى السنوات السابقة.
وبحسب تصريحات لمسؤول سعودي لوكالة الأنباء الفرنسية، فإن “عدد الحجاج غير النظاميين يقدر بحوالى 400 ألف شخص غالبيتهم العظمى من جنسية واحدة”، في إشارة إلى مصر.
وقررت لجنة خلية الأزمة الحكومية في مصر وضع آليات لمنح تأشيرات الزيارات بمختلف أنواعها من خلال التنسيق مع الجانب السعودي ووزارة الخارجية المصرية قبل وأثناء موسم الحج لمنع تكدس الحجاج غير الرسميين داخل المملكة، ومراجعة كشوف تأشيرات الدخول للأراضي السعودية والتأكد من إصدار “باركود”، من خلال شركات السياحة، واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة تجاه الشركات المخالفة.
كما تضمنت التوصيات دراسة تعديل بعض مواد قانون شركات السياحة رقم 38 لسنة 77 وتعديلاته لتشديد ضوابط إجراءات الشركات السياحية المنفذة لبرامج الحج والعمرة وضمان عدم مخالفتها وتحديد مسؤولياتها.
وتحدث مصدر يعمل بإحدى شركات السياحة في مصر، شريطة عدم ذكر اسمه، عن أن الشركات حققت مكاسب هائلة هذا العام جراء الاعتماد على رحلات الحج غير الرسمية، مشيراً إلى أن تكلفة تأشيرة السياحة لا يتجاوز 10 آلاف جنيه مصري، إلى جانب الاتفاق مع شركات النقل السعودية وحجز تذاكر الطيران والإقامة في مناطق شعبية زهيدة الثمن مقارنة بالفنادق الكبيرة في مكة
وذكر المتحدث أن الشركة إلى جانب عدم تحمل تكلفة إقامة الحجاج في عرفة ومنى، قد يصل إجمالي الرحلة إلى 70 ألف جنيه، فيما كانت تتراوح قيمة الرحلة الواحدة ما بين 120 ألف جنيه إلى 150 ألف جنيه.
وأضاف أن توسع الحكومة المصرية في الحصول على قيمة “باركود” لأداء فريضة الحج والعمرة وهي تتراوح ما بين 3000 جنيه إلى 5000 جنيه جعل شركات السياحة تفكر في توظيف الأمر لصالح إقناع الحجاج بأنه بإمكانهم دخول مكة المكرمة أثناء موسم الحج.
مشيراً إلى أن تأشيرة الزيارة لا يجب أن يصاحبها دفع قيمة باركود الحج والعمرة الذي تخصصه الحكومة المصرية، موضحاً أن شركات السياحة في حال تمت محاسبتها سوف تبرئ نفسها لأنها تقدم خدمة يطلبها المسافرون وهي الذهاب إلى المملكة العربية السعودية بشكل شرعي سواء كان ذلك من خلال تأشيرات الحج التي تتوفر لديها أو تأشيرات الزيارة إلى المملكة، وستقول في تلك الحالة إن الحجاج اتخذوا قرارهم بالذهاب إلى مكة بقرار شخصي.
وأكد لـ”عربي بوست” أن سماسرة الحج الذين منحوا الحجاج تأشيرات حج مزورة هؤلاء يمكن محاكمتهم لأن البعض أيضاً تعرض للخديعة بسبب تزوير التأشيرات، وأن هؤلاء لا يمثلون شركات السياحة أو يتحدثون باسمها وقد يكونون موظفين بها لكن يعملون بمفردهم بعيداً عنها.
إجراءات مشددة
تقدم النائب وجيه أباظة عضو مجلس النواب، بطلب إحاطة إلى المستشار الدكتور حنفي جبالي رئيس مجلس النواب، موجه إلى رئيس الوزراء، ووزراء السياحة والهجرة، من أجل توضيح الحقائق حول أزمة فقدان الحجاج المصريين ووفاة عدد منهم خلال أداء مناسك الحج، مطالباً بحضور وزير السياحة وكل الأطراف أمام المجلس لمناقشة ضمانات عدم تكرار الأمر.
وتساءل “أباظة”، في طلب الإحاطة الذي تقدم به، عن كيفية حصول هؤلاء السماسرة على تأشيرات الزيارة، مشدداً على ضرورة تكثيف التعاون مع وزارتي الحج والخارجية السعودية، لمنع تكرار مثل تلك الحوادث وضمان سلامة الحجاج المصريين.
وكشف مصدر بوزارة السياحة المصرية لـ”عربي بوست” عن أن الوزارة ستقوم بالعديد من الإجراءات خلال الفترة المقبلة التي تستهدف عدم تكرار ما حدث هذا العام بينها تفعيل الرقابة على السماسرة أو شركات السياحة الوهمية التي تخدع المواطنين برحلات الحج، إلى جانب إعادة النظر في رسوم الحج مع إمكانية تخفيضها بما يتماشى مع الأوضاع الاقتصادية للمواطنين.
وشدد على أن هناك ما يقرب من 2500 شركة سياحة تعمل في السوق المصري سيتم دراسة حالتها والتأكد من قانونية عملها، ومن المتوقع إغلاق العشرات بل والمئات من الشركات المخالفة وإحالة أصحابها إلى المحاكمات خلال الفترة المقبلة، مشيراً إلى أن الوزارات المعنية سيكون لديها دور في القرى والنجوع لتوعية المواطنين بعدم الاستجابة لدعاية تسفيرهم لأداء مناسك الحج بطرق غير شرعية، والتنسيق مع السلطات السعودية بشأن تحديد توقيتات تأشيرات الزيارات.