على مدار التاريخ٬ كان بحر الصين الجنوبي ممراً بحرياً بالغ الأهمية بين الأمم، ووسيلة إمداد وطريقاً تجارياً استراتيجياً، وقد تقاتل عليه العديد من الدول والجيوش٬ واليوم يعود بحر الصين الجنوبي مرة أخرى ليكون إحدى أهم نقاط الاشتعال والتوتر السياسي والعسكري في القرن الحادي والعشرين.
ما هو بحر الصين الجنوبي؟
- بحر الصين الجنوبي -وعرّفه المسلمون باسم بحر الصنف– يعد أكبر بحر في العالم (هو والبحر المتوسط) بعد المحيطات الخمسة٬ هو بحر متجزئ من المحيط الهادي، يبدأ من سنغافورة ومضيق ملقا إلى مضيق تايوان، ومساحته تقارب 3,500,000 كم2.
- تصنع جزر بحر الصين الجنوبي (الصغيرة جداً) أرخبيلاً ويتضمن المئات من هذه الجزر. يتصارع العديد من الدول على حقوق السيادة لهذا البحر وجزره (معظمها غير مأهولة). ويظهر أثر هذا الصراع على وجود العديد من المسميات لتلك الجزر وأيضاً البحر في اللغات المختلفة في هذه المنطقة. فيما تصر الصين على أنها صاحبة حق تاريخي فيه وفقاً لسجلات تاريخية تستند إليها قائلة إن الصينيين القدماء هم الذين اكتشفوه بالقرن الثاني قبل الميلاد.
- تأتي أهميته الاستراتيجية من عبور ثلث إمدادات الشحن البحري العالمي منه٬ كما يُعتقد أنه يحتوي على احتياطات هائلة من النفط والغاز الطبيعي في قاعه٬ بالإضافة إلى مخزونه الغني جداً من صيد الأسماك.
- يمرّ ما يقدر بنحو 3.37 تريليون دولار أمريكي من التجارة العالمية عبر بحر الصين الجنوبي سنوياً، في حين تمر نسبة 80٪ من واردات الصين من الطاقة و 39.5٪ من إجمالي التجارة الصينية عبر بحر الصين الجنوبي.
- تقدر احتياطيات النفط والغاز الطبيعي في هذا البحر بين 23 ملياراً و30 مليار طن من النفط، و190 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي.
تاريخ موجز.. ما قصة بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه؟
- تعد النزاعات في بحر الصين الجنوبي قادرة على إشعال حريق إقليمي قد يتحول لنزاع عالمي؛ حيث يتنافس العديد من المطالبين حول قضايا السيادة التي لا يمكن حلها قانونياً بسهولة٬ وأصبحت النزاعات على بحر الصين الجنوبي مرتبطة أيضاً بسياسات القوى العظمى، حيث تتدافع الصين والولايات المتحدة فيما بينهما من أجل السيطرة على النظام الدولي٬ وهذا البحر أصبح جزءاً أساسياً على الصراع بينهما.
- تشمل النزاعات الإقليمية الحالية في بحر الصين الجنوبي كلاً من المطالبات الجزرية والبحرية بين عدة دول ذات سيادة في المنطقة، وهي: سلطنة بروناي، وجمهورية الصين الشعبية، وجمهورية الصين (تايوان)، وإندونيسيا، وماليزيا، والفلبين، وفيتنام.
- وتشمل النزاعات بين الصين وجيرانها على الجزر، والشعاب المرجانية، والضفاف، وغيرها من مناطق بحر الصين الجنوبي، بما في ذلك جزر سبراتلي، وجزر باراسيل، وسكاربورو شول، وحدود مختلفة في خليج تونكين. ثمة نزاعات أخرى تضم المياه الإقليمية بالقرب من جزر ناتونا الإندونيسية، والتي لا يعتبرها الكثيرون جزءاً من بحر الصين الجنوبي.
- على مدار عقود كان بحر الصين الجنوبي محل صراع بين دول وشعوب وقبائل المنطقة. وخلال النصف الأول من القرن العشرين، ظل البحر هادئاً حيث ركزت الدول المجاورة اهتمامها على الصراعات التي تتكشف في أماكن أخرى.
- مع نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يحتل أي طرف جزيرة واحدة في بحر الصين الجنوبي بالكامل. ثم في عام 1946، سيطرت الصين على بعض جزر سبراتلي، وفي أوائل عام 1947، سيطرت أيضاً على جزيرة وودي، وهي جزء من سلسلة جزر باراسيل.
- وفي تلك المرحلة، لم يُنظر إلى بحر الصين الجنوبي باعتباره أولوية من جانب أي من المطالبين. ولهذا السبب، فبعد الهزيمة النكراء التي منيت بها الحكومة الصينية على أيدي الشيوعيين التابعين لماو، تراجعت قوات شيانج كاي شيك إلى “تايوان” وتخلت عن مواقعها في بحر الصين الجنوبي.
- بعد سنوات من تلك الأحداث٬ شهد بحر الصين الجنوبي اهتماماً متسارعاً من الدول الواقعة على البحر. ففي عامَي 1955 و1956، أنشأت الصين وتايوان وجوداً دائماً في العديد من الجزر الرئيسية هناك، في حين طالبت الفلبين بجزء كبير من سلسلة جزر سبراتلي باعتبارها ملكاً لها.
- بحلول أوائل السبعينيات، عاد المطالبون إلى هذا الأمر مرة أخرى. ولكن هذه المرة، كان الأمر مدفوعاً بمؤشرات تشير إلى وجود النفط تحت مياه بحر الصين الجنوبي. وكانت الفلبين أول من تحرك٬ وتبعتها الصين بعد ذلك بوقت قصير بغزو بحري منسق بعناية لعدة جزر.
- في معركة جزر باراسيل، انتزعت الصين العديد من الميزات من تحت سيطرة فيتنام الجنوبية، مما أسفر عن مقتل العشرات من الفيتناميين وإغراق سفينة حربية في هذه العملية. رداً على ذلك، عززت فيتنام الجنوبية والشمالية حامياتها المتبقية واستولت على العديد من المناطق الأخرى غير المأهولة من الجزر.
- بلغت التوترات ذروتها في الثمانينيات عندما احتلت بكين بالقوة منطقة “جونسون ريف”، ما أسفر عن مقتل العشرات من البحارة الفيتناميين في هذه العملية. وفي عام 1995، زادت التوترات عندما قامت بكين ببناء مخابئ فوق منطقة ميستشيف ريف في أعقاب امتياز النفط الفلبيني.
مرحلة جديدة من الصراع على بحر الصين الجنوبي
- بدء النزاع على بحر الصين الجنوبي يأخذ منعطفاً رئيسياً وجماعياً في عام 2002، عندما اجتمعت رابطة دول جنوب شرق آسيا والصين للتوقيع على “إعلان سلوك الأطراف في بحر الصين الجنوبي”. وسعى الإعلان إلى إنشاء إطار للمفاوضات النهائية بشأن مدونة قواعد السلوك لبحر الصين الجنوبي. ووعد كل طرف “بممارسة ضبط النفس في القيام بالأنشطة التي من شأنها تعقيد أو تصعيد النزاعات والتأثير على السلام والاستقرار، بما في ذلك الامتناع عن الدخول والسكن في الجزر غير المأهولة حالياً، والشعاب المرجانية، والمياه الضحلة، والجزر الصغيرة المنخفضة، وغيرها من المعالم. والتعامل مع خلافاتهم بطريقة بناءة”.
- لفترة من الوقت، بدا الإعلان وكأنه سيبقي الصراع بعيداً٬ حتى جاء مايو/أيار 2009، عندما أرسلت ماليزيا وفيتنام تقريراً مشتركاً إلى لجنة حدود الجرف القاري التابعة للأمم المتحدة يتضمن بعض مطالباتهما في بحر الصين الجنوبي. وأطلق هذا التقديم الأولي العنان لموجة من المذكرات الشفهية من المطالبين الآخرين، الذين اعترضوا على مطالبات البلدين.
- بشكل خاص، ردت الصين على العرض المشترك بتقديم خريطة تحتوي على خط حول حواف بحر الصين الجنوبي ويشمل جميع السمات الإقليمية للبحر بالإضافة إلى الغالبية العظمى من مياهه. وقالت الصين إنها تتمتع بسيادة لا جدال فيها على الجزر في بحر الصين الجنوبي والمياه المجاورة، وتتمتع بحقوق سيادية وولاية قضائية على المياه ذات الصلة، فضلاً عن قاع البحر وباطن أرضه.
- منذ نشر خريطة ذي النقاط التسع الصينية، ازدادت المخاوف في المنطقة بشأن مخططات الصين المتصورة في بحر الصين الجنوبي. وفي عام 2012، أكدت بكين بعض هذه المخاوف عندما انتزعت جزر سكاربورو من الفلبين. وكانت الدولتان قد تشاجرتا بشأن مزاعم الصيد الجائر غير المشروع من قبل الصيادين الصينيين. وبعد مواجهة استمرت شهرين، اتفق الطرفان على انسحاب كل منهما من الجزر. وقد انسحبت مانيلا، ولكن بكين لم تفعل. ومنذ ذلك الحين، استبعدت الصين القوارب الفلبينية من مياه الجزر.
- رداً على هذه الخطوة٬ رفعت مانيلا قضية تحكيم ضد الصين في 22 يناير 2013، تحت رعاية اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. تتمحور المطالبات الفلبينية حول قضايا القانون البحري، على الرغم من تأكيد الصين على أنه لا يمكن حلها دون البت في القضايا الإقليمية أولاً. ولهذا السبب، رفضت بكين إلى حد كبير المشاركة في الإجراءات، على الرغم من أنها صاغت وأصدرت علناً ورقة موقف تعارض اختصاص المحكمة. وقد قدمت الفلبين مذكرتها بالإضافة إلى ردها على ورقة الموقف التي قدمتها الصين، وتنتظر الدولتان حالياً قراراً من المحكمة فيما يتعلق بولايتها القضائية.
- مع استمرار القضية، تبنت الصين موقفاً حازماً على نحو متزايد في المنطقة. وفي أوائل مايو/أيار 2014، نقلت شركة نفط صينية مملوكة للدولة إحدى منصاتها إلى المياه التي تطالب بها فيتنام جنوب جزر باراسيل. أثار هذا الاستفزاز مواجهات بين السفن الفيتنامية والصينية حول المنصة، فضلاً عن أعمال شغب ضد الشركات المملوكة لأجانب في أجزاء من فيتنام. وفي مواجهة هذه المعارضة، سحبت الصين المنصة في منتصف يوليو/تموز من العام نفسه.
- بالإضافة إلى ذلك، أطلقت بكين خلال العام الماضي حملة متسارعة لاستصلاح الأراضي عبر بحر الصين الجنوبي. وفي سبعة مواقع على الأقل، سكبت السفن الصينية أطناناً من الرمال لتوسيع حجم المعالم التي تحتلها الصين. وبدأت بكين أيضاً في إنشاء البنية التحتية على جزء كبير من هذه الأراضي المستصلحة، بما في ذلك مهبط طائرات قادر على استقبال الطائرات العسكرية. ورغم أن مطالبين آخرين استصلحوا الأراضي في الماضي، فقد استصلحت الصين 2000 فدان من الأراضي الجديدة، أي أكثر من “جميع المطالبين الآخرين مجتمعين على مدار تاريخ مطالباتهم “، وفقاً لوزارة الدفاع الأمريكية.
ما الدور الأمريكي في النزاع على بحر الصين الجنوبي؟
- خلال العقدين الماضيين٬ أقامت الصين قواعد عسكرية متقدمة في بحر الصين الجنوبي يمكنها مضاهاة حاملات الطائرات الغربية.
- انتهجت الصين سياسة بناء الجزر الاصطناعية منذ عام 2013، لا سيما في منطقة جزر سبراتلي وباراسيل، وقوبلت هذه الإجراءات بإدانة دولية واسعة وإجراءات عملية مثل قيام الولايات المتحدة ودول أخرى مثل فرنسا والمملكة المتحدة بعمليات “حرية الملاحة” بالمنطقة منذ عام 2015.
- ورغم أن ادعاء الأمريكيين بعدم الانحياز لطرف ضد آخر في النزاعات الإقليمية، فإن سفنهم الحربية وطائراتهم العسكرية تجوب المنطقة باعتبارها مياها دولية، بما فيها المناطق القريبة من جزر متنازع عليها، ضمن أنشطة يطلقون عليها “عمليات حرية الملاحة” ويقولون إنها “تهدف إلى إبقاء طرق الملاحة البحرية والجوية مفتوحة للجميع”.
- يتبادل الصينيون والأمريكيون الاتهامات بعسكرة بحر جنوب الصين، مما أدى إلى مخاوف من أن تتجه المنطقة تدريجياً إلى نقطة احتكاك، وأن عواقب أي صدام فيها قد تكون وخيمة على النطاق العالمي.
- وليس لأمريكا أي مطالبة للسيادة في بحر جنوب الصين، لكنها انتقدت بشدة ما سمته “عدوانية” الصين، وأصرت على أن حرية الملاحة للسفن التجارية فيه أمر حيوي للتجارة الإقليمية والدولية.
- تسيّر واشنطن دوريات عسكرية مشتركة مع الفلبين واليابان وأستراليا وإندونيسيا من بحر الصين الجنوبي، كما زادت الدعم المالي لتعزيز القدرات العسكرية لدول آسيان ودول شرق آسيا، فضلاً عن تعزيز التعاون الدفاعي الثنائي مع هذه الدول في إطار صراعها على النفوذ العالمي مع الصين.
- وتفيد تقارير بأن الصين تقوم ببناء أسطول من المفاعلات النووية العائمة في بحر الصين الجنوبي. وفي حين أن هذه المفاعلات يمكن أن تدعم التنمية التجارية والتنقيب عن النفط، فقد تفاخرت الصين أيضاً بالقدرات العسكرية للمفاعلات العائمة النووية، والتي ترى أنها ستمنحها ميزة على أي قوات أمريكية في المنطقة.
- وفي عام 2016، قالت إدارة السلامة النووية الوطنية الصينية إن بكين تبني جزيرة اصطناعية ذات منصة نووية عائمة في جزر سبراتلي المتنازع عليها٬ ستكون “معادلة لحاملة طائرات تعمل بالطاقة النووية” ومجهزة بطائرات مقاتلة وأنظمة صاروخية. وتابعت المنظمة التي ترعاها الدولة أن “تفوق هذه المنصة العائمة العسكري سيكون أكبر بكثير من أسطول حاملات الطائرات الأمريكية”.
- ادعت الصين في البداية أن الأرض الجديدة ستكون للاستخدام المدني فقط، ثم تراجعت عن تلك الوعود وحولت الأرض إلى قواعد عسكرية مزودة بالرادارات والصواريخ. وبحلول عام 2022، كان لدى بعض الجزر مدارج طائرات وحظائر وتخزين وقود وبنية تحتية أخرى لعمليات الطائرات العسكرية.