الأخبار

نتنياهو المحاصر.. هل يكون قرار “تجنيد الحريديم” آخر مسمار يدق بنعش الحكومة الإسرائيلية؟

يفاقم قرار المحكمة العليا في إسرائيل إنهاء إعفاء “الحريديم” من التجنيد الضغوط السياسية على بنيامين نتنياهو، فهل يكون القرار آخر مسمار يدق بنعش الحكومة اليمينية؟

يمثل القرار أسوأ كوابيس رئيس الوزراء، إذ يمثل “الحريديم” حجر الزاوية في دعم حكومته اليمينية المتطرفة لسياساته التي تهدف فقط إلى بقائه في السلطة بغض النظر عن التداعيات الكارثية لتلك السياسات، بحسب المعارضة الإسرائيلية.

فحكومة نتنياهو تعتمد على حزبين متدينين، حزب يهودية التوراة المتحدة وحزب شاس، يعتبران إعفاء المتزمتين دينياً (الحريديم) من التجنيد الإجباري عاملاً أساسياً للحفاظ على قاعدتيهما الانتخابية في المعاهد اليهودية الدينية بعيداً عن الجيش باعتباره بوتقة صهر قد تختبر التزامهم الديني الشديد.

ماذا يعني القرار بالنسبة لحكومة نتنياهو؟

يعد الحزبان المنتميان للحريديم، أو “خائفي الله” باللغة العبرية، جزءاً أساسياً من ائتلاف بنيامين نتنياهو الهش، لكن الإعفاءات الواسعة من الخدمة العسكرية الإلزامية أعادت فتح انقسام عميق في البلاد وأثارت غضب الكثير من عامة الناس، وبصفة خاصة في خضم الحرب على غزة، التي قتل وأصيب فيها آلاف من جيش الاحتلال.

يحظى ائتلاف نتنياهو بأغلبية ضئيلة تبلغ 64 مقعداً في الكنيست (البرلمان) المؤلف من 120 عضواً، وهو ما يتطلب منه في كثير من الأحيان الاستسلام لمطالب الأحزاب الصغيرة مثل اليهود المتشددين، بحسب تقرير لوكالة AP الأمريكية.

وإذا تركت هذه الأحزاب الحكومة، فمن المرجح أن تتجه إسرائيل إلى إجراء انتخابات مبكرة، في وقت تعاني فيه شعبية نتنياهو من التراجع لصالح زعماء المعارضة، وبخاصة بيني غانتس.

يرأس وزير الإسكان إسحاق غولدكنوبف، أحد الأحزاب الحريدية في ائتلاف نتنياهو، وفي منشور على موقع إكس، وصف غولدكنوبف حكم المحكمة العليا بأنه “مؤسف للغاية ومخيب للآمال”، لكنه لم يذكر ما إذا كان حزبه سيترك الحكومة. كما ندد رئيس حزب شاس اليهودي المتشدد، أرييه درعي، بالحكم وقال إن الدراسة الدينية هي “سلاحنا السري ضد كل الأعداء”.

بينما قال حزب الليكود، الذي يتزعمه نتنياهو، إن قرار المحكمة العليا “محير” بالنظر إلى الجهود الجارية في الكنيست للاتفاق على قانون جديد للتجنيد قد يعالج المشكلة.

لكن يظل احتمال أن يبدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي، مدعوماً من وزير الدفاع يوآف غالانت، في تجنيد طلاب المعاهد الدينية قائماً، وهو ما قد يؤدي إلى توسيع الانقسامات في الائتلاف الحكومي الذي يزداد هشاشة.

ما قصة “الحريديم” في إسرائيل؟

يشكل المتزمتون اليهود نحو 13% من عدد سكان إسرائيل البالغ قرابة 9.7 مليون نسمة، وهم لا يخدمون في الجيش، ويقولون إنهم يكرّسون حياتهم لدراسة التوراة، إذ يعارضون التجنيد لأنهم يعتقدون أن الدراسة بدوام كامل في المعاهد الدينية هي أهم واجباتهم.

ويعود الإعفاء من التجنيد لليهود المتزمتين إلى تأسيس إسرائيل في عام 1948، عندما تم إعفاء أعداد صغيرة من العلماء الموهوبين من التجنيد، ولكن في ظل ضغوط من الأحزاب الدينية القوية سياسياً، تضخمت هذه الأرقام على مر العقود.

ويُلزم القانون كل إسرائيلي وإسرائيلية فوق 18 عاماً بالخدمة العسكرية، ولطالما أثار استثناء “الحريديم” من الخدمة جدلاً طوال العقود الماضية، لكن قضية “تجنيد الحريديم” اكتسبت بعداً آخر بالتزامن مع العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة وخسائر جيش الاحتلال التي لا تتوقف، حيث زاد ذلك من حدة الجدل، إذ تطالب أحزاب علمانية المتدينين بالمشاركة في “تحمّل أعباء الحرب”.

ومنذ 2017، فشلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في التوصل إلى قانون توافقي بشأن تجنيد “الحريديم”، بعد أن ألغت المحكمة العليا قانوناً شُرّع عام 2015 وقضى بإعفائهم من الخدمة العسكرية، معتبرة أن الإعفاء يمسّ بـ”مبدأ المساواة”.

الحريديم

ومنذ ذلك الحين، دأب الكنيست على تمديد إعفائهم من الخدمة العسكرية، ومع نهاية مارس/آذار الماضي، انتهى سريان أمر أصدرته حكومة نتنياهو بتأجيل تطبيق التجنيد الإلزامي لـ”الحريديم”. وكانت المحكمة العليا الإسرائيلية قد أصدرت في فبراير/شباط الماضي، أمراً يطالب الحكومة بتوضيح سبب عدم تجنيد “الحريديم”.

وبينما تعارض الأحزاب الدينية قانون تجنيد “الحريديم”، فإن الأحزاب العلمانية والقومية تؤيّده، وهو ما يتسبب لنتنياهو في إشكالية تهدد ائتلافه الحاكم.

بماذا حكمت المحكمة العليا في إسرائيل؟

في دولة الاحتلال، تعتبر الخدمة العسكرية إلزامية لمعظم الرجال والنساء، الذين يخدمون لمدة ثلاث سنوات وسنتين، على التوالي، في الخدمة الفعلية، بالإضافة إلى الخدمة الاحتياطية حتى سن الأربعين تقريباً. وجاء حكم المحكمة العليا الإسرائيلية بأن الخدمة العسكرية الإجبارية تنطبق على اليهود المتشددين مثل أي إسرائيلي آخر. وقال القضاة إن السماح لطائفة معينة “بالتجنب الشامل” للخدمة يرقى إلى مستوى التمييز. وكتب القضاة في رأيهم: “إن التمييز فيما يتعلق بأثمن شيء على الإطلاق – الحياة نفسها – هو أسوأ الأنواع”.

يلعب القضاء الإسرائيلي دوراً كبيراً في التحقق من السلطة التنفيذية للحكومة، وهذا هو السبب الرئيسي وراء محاولات نتنياهو وائتلافه اليميني الحاكم إدخال “إصلاحات” على السلطة القضائية، وصفتها المعارضة بأنها تمثل “انقلاباً قضائياً”، وهو ما أثار احتجاجات حاشدة في جميع أنحاء البلاد قبل إلغاء جزء كبير من الإصلاح.

متى يبدأ “تجنيد الحريديم” فعلاً؟

بحسب تحليل AP، سيكون من الصعب على الجيش الإسرائيلي دمج عدد أكبر من اليهود المتشددين الذين يعارضون بشدة الخدمة العسكرية في صفوفه. وبين الأغلبية اليهودية في إسرائيل، يُنظر إلى الخدمة العسكرية الإلزامية إلى حد كبير على أنها بوتقة انصهار وطقوس عبور، إلا أن اليهود المتشددين يقولون إن الاندماج في الجيش سيهدد أسلوب حياتهم المستمر منذ أجيال، وإن أسلوب حياتهم المتدين وتفانيهم في التمسك بالوصايا اليهودية يحمي إسرائيل بقدر ما يحميها الجيش القوي.

ولم تحدد المحاكم أعداد التجنيد في حكمها، لكن مكتب المدعي العام الإسرائيلي اقترح تجنيد ما لا يقل عن 3000 جندي أرثوذكسي متشدد (من الحريديم) في العام المقبل، بينما قالت المحكمة في حكمها إن حوالي 63,000 طالب حريدي مؤهلون للتجنيد.

وعلى مدى عقود من الزمن، حاول جيش الاحتلال استيعاب الجنود المتدينين من خلال إنشاء وحدات منفصلة تسمح لهم بالحفاظ على ممارساتهم الدينية، بما في ذلك تقليل التفاعل مع النساء. وإحدى الوحدات التي تم إنشاؤها لهذا الغرض، “نيتساح يهودا”، وهي الوحدة التي واجهت احتمال فرض عقوبات عليها من جانب إدارة جو بايدن بسبب ما ترتكبه من أفعال بحق الفلسطينيين وصفتها تقارير دولية وأممية بأنها ترقى إلى “جرائم حرب”، لكن واشنطن قررت في النهاية عدم فرض عقوبات.

هل يؤثر القرار على الحرب على غزة؟

لن يكون للحكم على الأرجح تأثير فوري يذكر على الحرب على غزة، التي أدت إلى استشهاد أكثر من 37600 فلسطيني، وفقاً لوزارة الصحة في القطاع، إذ إن عدد الحريديم الذين قد يتجندون بسبب الحكم صغير جداً بحيث لا يتوقع أن يكون له تأثير كبير على القتال اليومي، بحسب تقرير الوكالة الأمريكية.

باراك مدينا، أستاذ القانون في الجامعة العبرية في القدس والخبير في القانون الدستوري، قال للوكالة الأمريكية إن العديد من المعاهد الدينية تعتمد على التمويل الحكومي، و”الافتراض العام هو أن الحكومة لن تنجو من هذه الأزمة”.

وإذا أطاح الحكم بالحكومة، فقد يمنح نتنياهو مساحة أكبر للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار يمكن أن ينهي الحرب على غزة، بحسب مدينا، مضيفاً: “في الوقت الحالي، أحد الأسباب الرئيسية لمنعه من التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب هو أن ذلك سيعني نهاية تحالفه”.

فإذا انسحبت الأحزاب الحريدية من الائتلاف، لن يكون لدى نتنياهو “ما يخسره”، وقد يؤدي ذلك إلى تغيير في السياسة دون ضغوط من الوزراء اليمينيين المتطرفين المعارضين لأي نوع من وقف إطلاق النار. وقال مدينا إن نتنياهو سيتعرض أيضاً لضغوط كبيرة لإنهاء القتال إذا تمت الدعوة لانتخابات مبكرة لتجنب خوض الانتخابات بدون الرهائن وبينما لا تزال الحرب مستمرة.

نتنياهو “المحاصر”

في كل الأحوال يمثل قرار المحكمة العليا تجسيداً لأحدث فصول الضغوط التي يتعرض لها رئيس الوزراء الأكبر بقاء في المنصب، الرجل الذي يحاكم بتهم تلقي الرشوة وخيانة الأمانة والفساد، والذي يتهمه خصومه السياسيون في الداخل وحتى حلفائه في الخارج، وبخاصة الأمريكيون، بأنه لا “يعبأ سوى بالبقاء في منصبه”.

فعلى المستوى الخارجي، المحكمة الجنائية الدولية بصدد إصدار مذكرة باعتقال نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت بسبب جرائم الحرب في غزة، ومحكمة العدل الدولية تحاكم إسرائيل بتهم ارتكاب “إبادة جماعية”، والأمم المتحدة أدرجت جيش الاحتلال الإسرائيلي مؤخراً في قائمتها السوداء للجيوش التي “تقتل الأطفال”، وقائمة الدول الغربية التي تستعد لإصدار عقوبات على دولة الاحتلال ووقف تصدير الأسلحة لها في ازدياد متسارع.

وداخلياً يواجه نتنياهو احتجاجات يومية من جانب أهالي الأسرى لدى فصائل المقاومة في غزة بسبب مماطلته في توقيع صفقة لتبادل الأسرى تنهي الحرب من جهة، وانتقادات عنيفة من جانب أهالي الجنود في الجيش بسبب عدم وجود استراتيجية أو تصور لكيفية إنهاء القتال المستمر منذ ما يقرب من 9 أشهر دون تحقيق أهدافه المعلنة “القضاء على حماس وإعادة الأسرى”.

ولا شك أن قرار المحكمة العليا بشأن تجنيد الحريديم يمثل عنصراً آخر من عناصر الانقسام ويزيد من الضغوط على رئيس الوزراء المحاصر، في وقت يريد فيه أن يهرب إلى الأمام والتوجه نحو شن حرب شاملة على لبنان، رغم استمرار المناوشات الحدودية مع حزب الله اللبناني منذ بداية الحرب على غزة، ورغم تحذيرات الحليف الأكبر – واشنطن – من مخاطر اتساع رقعة الحرب في الشرق الأوسط.

لكن حتى العلاقة مع الداعم الأكبر لإسرائيل، أي إدارة الرئيس جو بايدن، لا يبدو أنها تهم نتنياهو، الذي لا يكف عن توجيه الانتقادات لبايدن وإدارته من جهة، ولا يلتزم بأي من اقتراحات واشنطن الهادفة إلى إنهاء الحرب على غزة قبل أن تتحول إلى صراع إقليمي أوسع قد تجد الولايات المتحدة نفسها غارقة فيه بشكل مباشر.

لكن على الرغم من ذلك، تؤكد إدارة جو بايدن على دعمها الكامل لإسرائيل في حالة اندلاع حرب شاملة مع حزب الله، وهو ما يبدو أنه “يشجع نتنياهو على مواصلة العمل ببوصلته الخاصة التي لا يحركها سوى هدف البقاء في السلطة بأي ثمن، ويشجعه أيضاً على تجاهل بايدن بشكل مطلق وكأنه لا وجود له”، بحسب مقال في نيويورك تايمز، عنوانه: “لماذا لا يأخذ نتنياهو بايدن على محمل الجد؟”.