تمثل حاملات الطائرات الرمز الأكبر للهيمنة العسكرية الأمريكية حول العالم، فكيف تخطط الصين وحلفاؤها لإغراق تلك المدن الطافية المدججة بأقوى الوسائل الدفاعية والجوية؟
مجلة ناشيونال إنتريست الأمريكية نشرت تقريراً، عنوانه “كيف تخطط الصين لإغراق حاملات الطائرات التابعة للبحرية”، يحمل في طياته ملمحاً من الإجابة عن هذا السؤال المعقد، وفي القلب من تلك الإجابة يأتي مصطلح “منع الدخول/ المنطقة المحرمة”.
ويشير هذا المصطلح، الذي يشار إليه اختصاراً بـ”A2/AD”، إلى الاستراتيجيات والتقنيات المصممة لمنع الخصوم، وخاصة الولايات المتحدة، من دخول المناطق المتنازع عليها، أو تلك التي قد تشهد مواجهات عسكرية، سواء كان ذلك في المحيط الإقليمي للصين أو حتى بعيداً عنها، كما هو الموقف الآن في البحر الأحمر وباب المندب.
“منع الدخول/ المنطقة المحرمة”
هذا المصطلح ليس جديداً، بل يتم تداوله في أروقة السياسة الأمريكية منذ سنوات، بحسب تقرير المجلة الأمريكية، إذ يقول كاتب التقرير: “منذ ما يقرب من عقد من الزمان، عندما وصلت إلى واشنطن العاصمة، وتوليت منصبي كبيروقراطي ممول من دافعي الضرائب، كان “A2/AD” أكثر المصطلحات ترديداً في جلسات إحاطة الكونغرس، أو في الحانات، أو في ندوات مراكز الأبحاث”.
تشير هذه القصة إلى أن صانعي القرار السياسي الأمريكي كانوا ينظرون بريبة إلى الصين منذ وقت طويل، قبل حتى أن تخرج المنافسة بين واشنطن وبكين إلى العلن وتتخذ أشكالاً عدائية متعددة مع وصول الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وشنه حرباً تجارية شرسة ضد الصين.
لكن على الرغم من ترديد مصطلح “A2/AD” بشكل متكرر في أروقة الكونغرس، إلا أنه نادراً ما كان يتم تقديم تفسير نهائي أو قابل للاستيعاب. وعلى الرغم من أن معظم المحللين الأمريكيين لديهم آراء قوية حول حالة “منع الدخول/المنطقة المحرمة”، إلا أن المتابع أو المواطن العادي قد لا يكون لديه من المعلومات ما يكفي لأن يفهم سبب وجود مثل هذه الآراء القوية.
عمليات الحوثيين في البحر الأحمر
إذ إن قدرات “منع الدخول/ المنطقة المحرّمة”، في جوهرها، من الممكن أن تحدد ما إذا كان من الممكن نشر القوة العسكرية الأمريكية بشكل موثوق في منطقة متنازع عليها، مثل بحر الصين الجنوبي أو بحر الصين الشرقي أو مضيق تايوان.
فالهدف من “منع الدخول/المنطقة المحرمة” هو إعاقة نشر القوة الكاملة للبحرية الأمريكية في مناطق صراع مثل البحر الأحمر أو مضيق باب المندب، حيث يقوم الحوثيون المتمركزون في اليمن باستهداف السفن المتجهة إلى إسرائيل، بسبب العدوان المستمر من جانب دولة الاحتلال على قطاع غزة، فيما يراه الأمريكيون خطة إيرانية، بينما تنفي طهران ذلك.
ورغم أن البحرية الأمريكية ردت على الحوثيين ولا تزال، إلا أن الأمر استغرق في البداية بعض الوقت من التفكير للتخفيف من أي تهديد لسلامة حاملة الطائرات التابعة للبحرية الأمريكية العاملة في المنطقة، يو إس إس أيزنهاور.
بحسب وجهة النظر الأمريكية، فإنه بفضل علاقة الحوثيين مع إيران (وعلاقة إيران مع روسيا والصين، القوتين العظميين في استراتيجية “منع الدخول/ المنطقة المحرمة”)، قد يتمكن الحوثيون من الوصول إلى ترسانة متزايدة التعقيد من الأسلحة المستخدمة لفرض “منع الدخول/ المنطقة المحرّمة”.
ويظهر استمرار عمليات الحوثيين البحرية أنهم قد أصبحوا بالفعل قادرين على تعقيد العمليات الآمنة للسفن الحربية الحديثة، مثل حاملات الطائرات الأمريكية.
ماذا تعني “الفقاعات الدفاعية”؟
لا تعتبر “A2/AD أو منع الدخول/ المنطقة المحرمة” نطاقاً جغرافياً ثابتاً أو منطقة محددة، لكنها عبارة عن مجموعة من “أجهزة الاستشعار؛ الدفاعات المضادة للسفن والطائرات والدفاعات الأرضية ؛ والنيران بعيدة المدى التي يستخدمها المنافسون الأمريكيون والمصممة لمنع الولايات المتحدة من الدخول إلى معركة جارية في منطقة معلقة”.
وفي هذا السياق يشير تقرير ناشيونال إنتريست إلى مصطلح آخر وهو “الفقاعات الدفاعية”، أو “الفقاعات” فقط، وهو مصطلح يستخدمه المحللون العسكريون أيضاً عند الحديث عن أزمة تايوان بشكل خاص، أو أي مواجهة عسكرية محتملة مع الصين بشكل عام.
وذلك لأن وجود ترسانة متكاملة تماماً من أنظمة “منع الدخول/ المنطقة المحرّمة” يسمح للمدافع، مثل الصين، بإنشاء ما يخشى معظم مخططي الحرب الأمريكيين أن يكون درعاً لا يمكن اختراقه – أو فقاعة – حول منطقة متنازع عليها. ففي حالة حدوث ذلك، ستمنع فقاعة “منع الدخول/ المنطقة المحرّمة” معظم منصات الأسلحة الأمريكية من الاقتراب بدرجة كافية لمهاجمة القوات الصينية العاملة في المنطقة.
وسوف يكون الأهم، في مثل هذه الحالات، بلا قيمة عسكرية عملياً؛ إذ إن هذا يعني إبقاء حاملات الطائرات القوية التابعة للبحرية الأمريكية بعيدة بما يكفي بحيث لا تتمكن من استخدام أجنحتها الجوية القوية للهجوم – أو المخاطرة للتعرض للإغراق بواسطة قوة عسكرية ساحقة ستكون في انتظار وصول الحاملة إلى منطقة الاستهداف.
من خلال إبقاء القوات الأمريكية على مسافة بعيدة، يؤمن واضعو الاستراتيجية العسكرية في الصين أن الفرصة ستكون سانحة أمامهم للتغلب على أعدائهم المحليين، سواء كان ذلك اليابان، حيث توجد خلافات بشأن السيطرة على جزر سينكاكو، أو الفلبين، أو تايوان.
فخ لحاملات الطائرات الأمريكية؟
خبير الدفاع هاري كازيانيس يرى أن الصين تستخدم “مزيجاً من المنصات العسكرية المختلفة مثل الغواصات فائقة الهدوء، وأكثر من 80 ألف لغم بحري، وأنواع مختلفة من الحرب السيبرانية، والأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، وهجمات أسراب بالصواريخ الباليستية وصواريخ كروز”، وذلك في إطار استراتيجية “منع الدخول/ المنطقة المحرمة”.
ويضيف تقرير ناشيونال إنتريست إلى تلك القائمة الممتدة من الأسلحة المتطورة أنظمة الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت والتي تتفوق فيها الصين وروسيا على الولايات المتحدة، بالإضافة إلى مركباتها تحت الماء بدون طيار (UUV) وأساطيل المركبات الجوية بدون طيار (UAV)، وهو ما يخلق “المزيج السام الذي يمكن أن يكون قاتلاً للبحارة والطيارين ومشاة البحرية الأمريكيين الذين سيكونون على الخطوط الأمامية”.
وفي هذا السيناريو، ستتحمل البحرية الأمريكية العبء الأكبر في أي مواجهة عسكرية مع الصين، وستكون حاملات الطائرات في خطر محدق، رغم أن أي رد عسكري أمريكي سوف يشهد مشاركة الجيش أيضاً.
روسيا وإيران وكوريا الشمالية؟
بحسب تقرير ناشيونال إنتريست، لا تعمل الصين بمفردها في إطار استراتيجية “منع الدخول/ المنطقة المحرمة”، إذ تمتلك روسيا وإيران وكوريا الشمالية ترسانة معقدة من أنظمة “A2/AD” المتنوعة.
كما يعمل المنافسون المحتملون الآخرون للولايات المتحدة، مثل فنزويلا، على تطوير ترسانتهم الخاصة من أسلحة “منع الدخول/ المنطقة المحرّمة” بسرعة مع إدراكهم التام أن هذه الأنظمة الرخيصة والبسيطة نسبياً يمكن أن تكون المفتاح إلى إضعاف الاستعراض المستمر للقوة العسكرية الأمريكية.
وفي العام الماضي، يبدو أن فنزويلا اشترت مجموعة صغيرة من زوارق الصواريخ الإيرانية Peykaap-III والتي “يمكنها حمل ما يصل إلى صاروخين مضادين للسفن من نوع كوثر (مع مدى إطلاق يصل إلى 20 كم)، ووزن الرأس الحربي 29 كلغ) أو نصر-1 (مداه يصل إلى 35 كلم ووزن الرأس الحربي 150 كلغ)”، بحسب نفس المصدر.
تظل بطبيعة الحال قدرة فنزويلا في إطار استراتيجية “منع الدخول/ المنطقة المحرّمة” بدائية مقارنة بأنظمة المنطقة نفسها لدى حلفائها الصينيين والروس وحتى الإيرانيين. ولكن حقيقة أن كاراكاس ترغب في الاستيلاء على حقول النفط الضخمة في جويانا المجاورة، وأنها مدعومة بقوة من قبل الصين وروسيا وإيران، تعني أن ترسانة فنزويلا الأساسية نسبياً قد تتطور بسرعة وتتحول إلى “تهديد حقيقي للغاية”، تقول ناشيونال إنتريست. ومن الممكن أن تهدد كاراكاس قدرات استعراض القوة لدى جيرانها (مثل البرازيل)، فضلاً عن المؤسسة العسكرية الأمريكية ذاتها بمرور الوقت.
كيف تتحرك أمريكا إذن؟
مؤخراً، نشرت البحرية الأمريكية حاملة الطائرات “يو إس إس جورج واشنطن” كخطوة “ردع” ضد التهديد المتزايد الذي تشكله فنزويلا على غيانا. ولكن في مرحلة ما، حتى فنزويلا الصغيرة قد تتمكن من بناء قدرة “منع الدخول/ المنطقة المحرّمة” اللازمة لإبقاء الأنظمة الأمريكية بعيدة عن منطقة الصراع. وهذا هو التهديد الحقيقي الذي تفرضه “منع الدخول/ المنطقة المحرّمة” على الجيش الأمريكي.
تمثل هذه المعطيات صورة متشائمة إلى حد ما بالنسبة للهيمنة العسكرية الأمريكية، وبخاصة البحرية وحاملات الطائرات لديها، حيث قد يجد الجيش الأمريكي نفسه في موقف المتفرج في المناطق الرئيسية المتنازع عليها في العالم، أو المغامرة بتعريض سلاح البحرية الأهم (حاملات الطائرات) للإغراق.
وبحسب تقرير ناشيونال إنتريست، بدأت واشنطن مباشرة بعد أن أصبح التهديد الصيني المتمثل في استراتيجية “منع الدخول/المنطقة المحرّمة” واضحاً في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في صياغة ردها الاستراتيجي على هذا التهديد.
وتهدف واشنطن حالياً إلى نشر القوات الجوية والبحرية ومشاة البحرية فيما تسميه مفهوم “المعركة الجوية والبحرية”. وتم تصميم هذه الاستراتيجية لاستخدام الفروع العسكرية الأمريكية الثلاثة المذكورة أعلاه في المقام الأول، جنباً إلى جنب مع أي حلفاء، “لتفجير” فقاعات المنطقة المحرّمة/منع الولوج التي أنشأها المنافس. أي أنها استراتيجية هجومية تقوم على أخذ المبادرة بشكل كامل.
وهناك استراتيجية أخرى تتمثل في نشر القوات البحرية الأمريكية بشكل أساسي لمحاصرة الصين عن بعد، ويطلق عليها “السيطرة الخارجية”. وبما أن الصين تعتمد بشكل كبير على طرق التجارة البحرية لجلب الموارد الرئيسية لاقتصادها، مثل النفط من الشرق الأوسط، فإن البحرية ستحاصر نقاط التفتيش التجارية الرئيسية لوقف تدفق البضائع من الخارج إلى الصين حال اندلاع صراع ما.
مبادرة الحزام والطريق الصينية
كانت هذه الاستراتيجية الأمريكية أحد الأسباب الرئيسية وراء سعي الصين لإنشاء مبادرة الحزام والطريق (BRI)، وهي شبكة من الطرق التجارية التي تهيمن عليها بكين عبر الطرق البرية الأوراسية بالإضافة إلى الطرق البحرية المتعانقة بالقرب من شواطئ أوراسيا.
لكن في الوقت نفسه، تستعد الصين أيضاً لما يعرف بـ”سيناريو يوم القيامة”، بحسب ناشيونال إنتريست. إذ إن مفهوم “المعركة الجوية والبحرية” باهظ التكلفة وغير المسؤول الذي يتبناه البنتاغون هو ما تخشاه بكين (على الأرجح؛ لأنه يخدم المزايا العسكرية والجغرافية المتأصلة في الصين). وتخشى بكين من سياسة السيطرة البحرية كوسيلة للتغلب على أنظمة “منع الدخول/المنطقة المحرّمة”.
علاوة على ذلك، فإن استراتيجية السيطرة البحرية المقترنة بقدرات الاختراق بعيدة المدى المتزايدة للقوات الجوية والبحرية (وكذلك الجيش ومشاة البحرية) قد تكون أفضل بكثير “لتفجير فقاعات “منع الدخول/ المنطقة المحرّمة” الصينية.
وبطبيعة الحال، بموجب القانون الدولي، يعتبر الحصار عملاً من أعمال الحرب. ومع ذلك، فإن الحرب قادمة بين الولايات المتحدة والصين، بحسب تقرير المجلة الأمريكية، وفي ظل الظروف الحالية، فإن “الأمريكيين ليسوا مستعدين”، والصين تعرف ذلك.
النقطة الأخيرة في هذا التقرير تتحدث عن أنه نظراً لمدى التقارب الذي أصبحت عليه كل من روسيا والصين، إلى جانب إيران وكوريا الشمالية – وكلها يمكنها نقل البضائع إلى الصين براً – “يبقى أن نرى مدى فعالية حتى الاستراتيجية المفضلة للسيطرة البحرية”.
كانت أمريكا قد نشرت، في أكتوبر/تشرين الأول 2022، حاملة الطائرات الأكبر والأحدث، بتكلفة 13.3 مليار دولار، في المحيط الهادئ، وسط تساؤلات عن كيفية حمايتها من الصواريخ فرط الصوتية المضادة للسفن والتي تمتلك الصين ترسانة منها، إذ جاء نشر حاملة الطائرات “يو إس إس جيرالد آر فورد” للمرة الأولى في تلك المنطقة وسط التوترات المتزايدة عبر المحيط الهادئ وعدم اليقين بشأن الدور الذي ستسهم به هذه السفن العملاقة في الحرب عموماً، والمواجهة مع الصين خصوصاً.
الخلاصة هنا هي أن العقد الحالي (2020 – 2030) أصبح الآن عقداً حاسماً في ظل تحول ميزان القوى بين الولايات المتحدة والصين، وهذا ما يدركه جيداً خبراء الاستراتيجية في البلدين. ويرى صانعو القرار السياسي في بكين وواشنطن أن هذا العقد هو سنوات الخطر. ففي حال وجد العملاقان (أمريكا والصين) وسيلة للتعايش معاً دون التخلي عن مصالحهما الجوهرية، سيكون العالم أفضل حالاً. أما في حالة الفشل في تحقيق ذلك التعايش السلمي، فالنتيجة هي احتمال اندلاع حرب أكثر خطورة من الحربين العالميتين السابقتين.