المقاتلة “نجاد NGAD” من الجيل السادس تهدف إلى استمرار الهيمنة الجوية للقوات الأمريكية لعقود قادمة، لكن يبدو أن المشروع باهظ التكلفة بات في مهب الريح، فما هي الأسباب؟
مجلة Popular Mechanics نشرت تقريراً يتناول قصة المشروع المحاط بالسرية منذ سنوات، والمواصفات المذهلة لطائرة الجيل التالي للهيمنة الجوية Next Generation Air Dominance “نجاد NGAD”، والأسباب التي جعلت احتمالات اكتمال المشروع تتراجع بشدة مؤخراً.
كانت الولايات المتحدة الأمريكية، عام 2005، قد أصبحت أول دولة في العالم تستخدم طائرة مقاتلة من طراز الجيل الخامس Lockheed Martin F-22 Raptor، وكانت الميزة الأوضح التي تنفرد بها، إضافة إلى المواصفات الأخرى، تتمثل في القدرة على التخفي، بحسب تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
“نجاد”.. الهيمنة الأمريكية على الأجواء
على مدى سنوات عديدة، كانت القوات الجوية الأمريكية تؤكد أن برنامجها المحاط بالسرية لتطوير مقاتلة نفاثة من الجيل السادس للهيمنة الجوية (نجاد) سيضمن استمرار تلك القوات في السيطرة على السماء حتى منتصف القرن الحادي والعشرين من جهة، واستبدال الطائرات المقاتلة الموجودة في الخدمة حالياً، وبالتحديد مقاتلات الشبح المثيرة للإعجاب من طراز إف-22 رابتور.
وفي مناسبات عديدة، أكدت القوات الجوية أن مشروع “نجاد”، المتوقع أن تبلغ تكلفته 16 مليار دولار، يجري تطويره بسرعة غير مسبوقة. كما تم الكشف، عام 2020، أن نموذجاً تجريبياً واحداً على الأقل من “نجاد NGAD” قد بدأ اختبار الطيران، وأن هذا المشروع لا يزال يحتل الأولوية القصوى للقوات الجوية.
وكان من المتوقع أن تمنح القوات الجوية عقداً هذا العام إما لشركة بوينغ أو شركة لوكهيد مارتن لإنتاج ما لا يقل عن 200 مقاتلة من طراز “نجاد”، على أن تتكلف كل مقاتلة واحدة منها مئات الملايين من الدولارات.
تراجع عن المشروع أم خداع تكتيكي؟
لكن في الرابع عشر من يونيو/حزيران الماضي، أدلى رئيس أركان القوات الجوية الأمريكية، دانيال ألفين، بتصريحات غامضة للغاية بشأن مستقبل مشروع “نجاد”: “المداولات لا تزال جارية، ولم يتم اتخاذ أي قرار. نحن ننظر إلى الكثير من الخيارات الصعبة للغاية التي يتعين علينا أخذها في الاعتبار”.
وصف تقرير Popular Mechanics لهجة ألفين خلال اجتماع مائدة مستديرة بشأن تطورات مشروع مقاتلة الجيل السادس بأنها جاءت مشحونة “بالمشاعر المشؤومة”، كما تحدث بعض كبار قادة القوات الجوية عن أن إدارة مشروع “نجاد” على وشك الإعلان عن تسريح العمال.
وأشار رئيس الأركان إلى أن القوات الجوية الأمريكية وجدت “طرقاً مختلفة لتطوير قدراتها” دون الحاجة بالضرورة إلى إنتاج “مقاتلة مأهولة” من الجيل السادس، مفسراً تلك الطرق بأنها تشمل “الميل إلى” التركيز على “الطائرات القتالية التعاونية”، وهي طائرة مقاتلة بدون طيار كان الهدف منها في الأصل هو مرافقة “نجاد” في ساحات المعارك.
ربما تكون هذه التصريحات المتشائمة بشكل مفاجئ من جانب القوات الجوية بشأن مشروع “نجاد” حيلة سياسية هدفها استفزاز الكونغرس لمنح المشروع تمويلاً إضافياً، وهذا الأسلوب ليس جديداً بالنسبة للسياسة الأمريكية بشكل عام. إذ تقوم الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة، مثل القوات الجوية أو البحرية، أحياناً باستخدام أسلوب التلويح بقتل مشاريع ضخمة لإنتاج أسلحة متطورة بهدف تحريك المياه الراكدة في أروقة الكونغرس لمنح أو لتسريع منح تمويلات مجدولة بالفعل أو تمويلات إضافية.
وتوجد أمثلة على نجاح مثل هذا النوع من المناورات، فقد تدخل الكونغرس من قبل لإنقاذ برامج أو مركبات أعلنت البنتاغون أنها بصدد التراجع عنها، مثل السفينة القتالية A-10 Thunderbolt التابعة للقوات البحرية.
لكن ليس من المستبعد أن تؤدي الضغوط الحقيقية على الميزانية، إلى جانب التحولات في كيفية تقييم القوات الجوية لفائدة وتكلفة والمدة الزمنية المتاحة لإدخال مقاتلة شبح من الجيل السادس إلى الخدمة، في نهاية المطاف إلى قتل “نجاد” قبل أن تولد، بحسب تقرير مجلة Popular Mechanics.
أسراب المقاتلات العاملة وتكلفة تشغيلها
توجد لدى القوات الجوية الأمريكية حالياً طائرتان مقاتلتان شبحيتان؛ حوالي 180 مقاتلة شبحية من طراز إف-22 إيه رابتور تم إدخال تحسينات وتعديلات عليها للقتال في معارك جوية مباشرة ضد طائرات معادية، ومن المتوقع تقلص هذا العدد إلى 150 فقط.
وهناك أيضاً قوة كبيرة تبلغ حوالي 260 طائرة من طراز “إف-35 البرق” متعددة المهام، وهي المقاتلات الأكثر توظيفاً في المهام القتالية، ومن المتوقع تسلم القوات الجوية أكثر من 1000 طائرة أخرى من نفس الطراز خلال السنوات القليلة المقبلة.
لكن طائرات إف-22 رابتورز ذات القدرة الرائعة على المناورة تواجه مشكلة لا توجد لها حلول عملية؛ فالمقاتلة مجهزة بإلكترونيات قديمة ترجع إلى تسعينات القرن الماضي وأنواع طلاء بغرض التخفي باهظة الثمن، وأي تحسينات رئيسية في هذه القطاعات باتت باهظة التكلفة بشكل غير عملي، فقد توقف إنتاج إف-22 رابتورز بشكل كامل.
“نجاد” واستبدال الإف-22 رابتور
في ظل هذه المعطيات، كانت القوات الجوية تعتمد على مقاتلات “نجاد” كي تحل محل طائرات إف-22 رابتور، والعمل جنباً إلى جنب مع طائرات إف-35 كمقاتلة تفوق جوي تكنولوجية للقرن الحادي والعشرين، في ظل المميزات التي سيوفرها الجيل التالي من المحركات والمواد الشبحية الفعالة لتقليل تكاليف التشغيل، إضافة إلى قدرات متكاملة للتحكم في الذكاء الاصطناعي والطائرات بدون طيار، وقدرات شبكات الاستشعار المتقدمة والتحكم في الحرائق.
هذه السمات التي يفترض أن توفرها “نجاد” تهدف إلى المساعدة في الحفاظ على التفوق على الطائرات الشبح الجديدة التي تنتجها الصين وروسيا وأنظمة الدفاع الجوي الأرضية الأكثر تطوراً.
وكان من المتوقع أن تمنح القوات الجوية هذا العام عقداً يخص مشروع “نجاد” للشركات الثلاث الكبرى (نورثروب جرومان، ولوكهيد مارتن، وبوينغ)، لكن قيادة القوات الجوية أعلنت في مارس/آذار الماضي أنها تحتاج لثلثي الميزانية السنوية للمشروع البالغة 1.5 مليار دولار حتى تتمكن من التركيز على تحسين معدلات الاستعداد للأسراب العملياتية الموجودة في الخدمة بالفعل، أي إف-22 رابتور وإف-35.
وفي السياق ذاته، أعلنت القوات البحرية مؤخراً أنها أجلت “إلى أجل غير مسمى” البرنامج الشقيق لـ”نجاد”، الذي يحمل الاسم نفسه ويهدف إلى تطوير مقاتلة نفاثة من الجيل السادس تعتمد على حاملات الطائرات الأحدث، بهدف أن تحل محل طائرات سوبر هورنيت غير الشبحية التابعة للبحرية، والتي ستتوقف عن الإنتاج في عام 2025.
6.6 مليون دولار سنوياً لتشغيل مقاتلة إف-35
الصحفي الأمريكي المتخصص في تغطية أخبار الطيران، بيل سويتمان، قال في مقال له عن “نجاد” إن أحد أسباب تراجع المشروع وربما تجاهله تماماً ترجع إلى التكلفة التشغيلية المرتفعة للغاية لطائرات إف-35 الشبحية، وهو ما وضع قيوداً ضخمة على الأموال المتاحة لاستكمال مشروع “نجاد”.
إذ تبلغ تكاليف المقاتلة الواحدة من طراز إف-35 سنوياً نحو 6.6 مليون دولار، ولكن نظراً للنجاح الكبير لهذه المقاتلة وزيادة الطلب عليها من جانب دول كثيرة، يستمر الاهتمام بها من جانب القوات الجوية على حساب مشروع “نجاد” المتعثر.
لكن لا تزال هناك مشكلتان عصيتان على الحل بشأن الإف-35: ارتفاع تكاليف التشغيل لكل ساعة طيران، وهو ما دفع القوات الجوية إلى تخفيض استخدام الطائرة بشكل أقل ليقل معدل التوافر التشغيلي بشكل مطرد على مدى السنوات الخمس الماضية وفي الوقت نفسه، فإن برنامج تطوير طائرات إف-35 إلى المعيار الجديد متأخر لسنوات عديدة عن الموعد المحدد وقد تجاوز الميزانية بكثير، حيث أعلنت القوات الجوية في أبريل/نيسان أنها ستقتطع الترقية بشكل كبير من خلال تقليص القدرات العديدة المخطط لها.
ما علاقة الأسلحة النووية بتعثر “نجاد”؟
هناك سبب آخر يبدو أنه ساهم في تغيير حماس القوات الجوية لمشروع “نجاد”، وهو ما تحدث عنه أحد كبار مسؤولي القوات الجوية في وسائل التواصل الاجتماعي (يكتب باسم مايك بلاك)؛ استثمارات القوات الجوية في الحرب التقليدية تتعرض للتحدي بسبب الاضطرار إلى تحديث الأسلحة النووية التي يتم إطلاقها من الأرض والجو في وقت واحد.
فمن خلال التوقيت السيئ، تقوم القوات الجوية بتنفيذ 3 تحديثات رئيسية في وقت واحد على صواريخها الباليستية الأرضية وقاذفات القنابل الشبح بي-2، والصواريخ النووية التي يتم إطلاقها من مقاتلة بي-52. وهناك بدائل تتمثل في قاذفة القنابل الشبحية سينتينيل Sentinel التي تطورها شركة نورثروب غرومان، وقد تجاوزت تكلفة Sentinel، على وجه الخصوص لتتجاوز 37% من الميزانية وتصل إلى 125 مليار دولار.
ويرى “مايك بلاك” أن “الموازنة الرئيسية الحالية للقوات الجوية لا يمكنها أن تتحمل تكاليف طائرات بي-21 و”نجاد” وسينتينيل”، وبالتالي فإن “نجاد” أصبحت “مجرد فكرة غير قابلة للتنفيذ على الإطلاق، مشيراً إلى أن هذه النتيجة كانت متوقعة قبل عقد من الزمن، لكنها أصبحت الآن أكثر وضوحاً فقط: “قنبلة الميزانية التي كان الجميع يعلم أنها قادمة على سينتينيل قد انفجرت الآن”.
وعلى الرغم من أن القوات الجوية لا تزال تفضل مقاتلات “نجاد” كثيراً، إلا أنها ملتزمة بشكل غير مرن بالتوقعات ذات الدافع السياسي لتجديد / وإعادة بناء صوامع الصواريخ النووية، وهو هدف سياسي وليس عسكرياً، بحسب بلاك.
أمريكا.. الطائرات بدون طيار
التطور الكبير الذي شهدته الحروب في العقود الأخيرة يبدو أنه كان أحد أسباب هذا الفتور المفاجئ لحماس القوات الجوية الأمريكية تجاه مقاتلات “نجاد” المأهولة، أي التي يقودها طيار، والتركيز أكثر على الطائرات بدون طيار. ومشروع “نجاد” يشمل أيضاً جيلاً جديداً من المقاتلات بدون طيار، تسمى المسيرات التعاونية، حيث يفترض أن تشارك في المعارك الجوية جنباً إلى جنب مع طائرات الجيل التالي الشبحية.
وبحسب التقارير الخاصة بمشروع “نجاد”، تركز القوات الجوية حالياً على مسار تطويري آخر تتعاون فيه الطائرات بدون طيار التي يجري تطويرها بشكل منفصل من قبل مشروع “نجاد”، مع طائرات إف-35 الشبحية أو حتى مقاتلات أخرى غير شبحية من الأجيال الأقدم مثل إف-16.
ويقوم هذا السيناريو على أن تشارك المسيرات التعاونية في معركة جوية مباشرة، بينما تكون المقاتلات المأهولة في وضع مراقبة وانتظار وإسناد على بعد أميال، وتطلق صواريخها الجو-جو عند الحاجة. ويبدو أن القوات الجوية الأمريكية تعتقد أن بإمكانها الاحتفاظ بالتفوق دون الحاجة لمقاتلات “نجاد” المأهولة.
أحد المفاهيم التكتيكية المحتملة هنا هو الاعتماد على طائرات بدون طيار التعاونية لإدارة “خط المواجهة” عالي الخطورة في اشتباك جو-جو، في حين تظل “قوة المواجهة” المكونة من مقاتلات مأهولة على بعد عشرات الأميال، حيث تسيطر كل مقاتلة منها على عدة طائرات بدون طيار في وقت واحد بينما تساهم أيضاً في إطلاق صواريخ بعيدة المدى.
لكن بلاك يرى أن محاولة القوات الجوية “حشر” دور وقدرات “نجاد” في طائرة إف-35 “يفقد قواتنا الجوية القدرات الكامنة التي سنحصل عليها من فكرة طائرة نجاد الأصلية؛ أداء حركي وحمولة وقدرات فائقة على المراقبة والاشتباك”.
ومع قيام الصين بتوسيع أسطولها من المقاتلات الشبح J-20 ونشر أنواع جديدة (مثل J-35، وفي نهاية المطاف، طائرة التفوق الجوي من الجيل السادس الخاصة بها)، قد يكون من الصعب منع التهديدات من الاقتراب من نطاق الهجوم الفعال (طائرات مأهولة ودية)، بحسب بلاك.
لكن القوات الجوية الأمريكية ليست واثقة من أن أي مقاتلة شبح باهظة الثمن تصنعها اليوم ستظل فعالة لفترة كافية لتبرير المليارات من تكاليف الاستدامة التي سيتم تكبدها على مدى عدة عقود. وقد أشار المسؤولون ضمناً إلى أن القوات الجوية قد تفضل تجنب الالتزامات طويلة المدى بالتصميم المأهول (الذي يمكن أن يصبح عتيقاً بسرعة) لصالح نوع من الزواج الأحادي المتسلسل، أي التقاط الطائرات بدون طيار الأقل تكلفة والتخلص منها استجابة للتطورات التكنولوجية.