تحتوي اللافتات الحمراء المعلقة طول الطرق المؤدية إلى شمال “إسرائيل” على كلمة واحدة: “مهجور”. وتقول مجلة Economist البريطانية إن هذه الكلمة تتكرر في كل محادثة تقريباً مع السكان من المستوطنين الإسرائيليين القلائل المتبقين في البلدات والقرى شبه المهجورة القريبة من الحدود مع لبنان، والتي كانت ولا تزال تحت نيران حزب الله منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وهذه المشكلة الأمنية والوجودية اتهام موجّه إلى حكومة بنيامين نتنياهو، التي فشلت في التوصل إلى حل لوقف وابل الصواريخ والطائرات المسيرة الانتحارية التي يطلقها حزب الله وتسبب بالدمار في المدن واشتعال النيران في الغابات التي وصلت إلى منازل المستوطنين.
وقد تعهد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، مؤخراً، بمواصلة الهجمات، وأكد على أن الحزب يعمل بمثابة “جبهة دعم” لحماس والمقاومة الفلسطينية في غزة، التي عجزت “إسرائيل” عن تفكيكها كما وعد نتنياهو، بل إن الجيش الإسرائيلي ما زال يتعرض لخسائر باهظة في القطاع، مثل كميح رفح الأخير.
لماذا لا يمكن لإسرائيل مواجهة حماس وحزب الله في وقت واحد؟
يقول أحد المستوطنين من قرية لم يتم إخلاؤها بالقرب من مدينة صفد: “نحن مثل البط في مرمى صيد حسن نصر الله”. ويضيف للمجلة البريطانية: “كانت بناتي ينمن في الغرفة الآمنة بمنزلنا طوال الأشهر الثمانية الماضية”. وظلت هذه الحرب غير المعلنة في الشمال إلى حد كبير خاضعة لمجموعة غير مكتوبة من القواعد الأمنية الإسرائيلية. وقصف حزب الله بشكل رئيسي أهدافاً قريبة من الحدود وقواعد عسكرية. وردت إسرائيل بضربات استهدفت عناصر حزب الله، في بعض الحالات في عمق لبنان.
وعلى الرغم من أن أياً من الطرفين لم يطلق أي شيء يقترب من ترسانته الكاملة، إلا أن إطلاق النار عبر الحدود زاد منذ منتصف شهر مايو/أيار ووصل الأسبوع الماضي إلى أعلى مستوياته منذ بداية الحرب.
وباستخدام بيانات من نظام الأقمار الصناعية لوكالة ناسا وخوارزمية التعلم الآلي لتتبع الحرائق المرتبطة بالحرب، تمكنت مجلة الإيكونوميست من إحصاء مئات الضربات التي تحدث على جانبي الحدود، خلال آخر شهر. فما بين 16 مايو/أيار إلى 16 يونيو/حزيران، كان هناك 640 قصفاً على جانبي الحدود، 254 منها في شهر يونيو/حزيران وحده.
واستهدفت الصواريخ والطائرات من دون طيار التابعة لحزب الله مناطق أوسع في “إسرائيل”، بما في ذلك مدينة صفد، التي لم يتم إخلاؤها والتي يحاول حزب الله ضرب منشآت عسكرية فيها. وتشمل هذه الأهداف مقر القيادة الشمالية للقوات الإسرائيلية.
وعلى الرغم من عودة قدر من الهدوء مرة أخرى في الأيام القليلة الماضية، ربما بسبب عيد الأضحى لدى المسلمين في لبنان، إلا أن القتال قلب الحياة رأساً على عقب في إسرائيل. وفي الأيام الأولى للحرب، قامت إسرائيل بإجلاء المستوطنين الذين كانوا يعيشون على بعد كيلومترين من الحدود. ولم يعد حوالي 60,000 شخص بعد إلى منازلهم.
ومن بين القلائل الذين بقوا هناك حفنة من المزارعين الذين بقوا للعمل في حقولهم ورعاية الماشية. وفي كريات شمونة، أكبر مستوطنة حدودية -التي كانت في السابق موطناً لحوالي 22 ألف شخص- لم يبقَ إلا حوالي 3000 شخص، معظمهم من المتقاعدين.
“الوضع جحيم هنا في الشمال”
على الجانب الآخر، ألحقت إسرائيل المزيد من الضرر بحزب الله، حيث أعلنت قتل أكثر من 300 من عناصره خلال هذه الفترة، في حين اعترفت إسرائيل بمقتل 28 شخصاً لديها بنيران حزب الله. وفي 12 يونيو/حزيران، أدت غارة جوية إسرائيلية إلى مقتل طالب سامي عبد الله، أحد كبار أعضاء حزب الله الذي يقود قواته في جنوب لبنان. لكن هذه الضربات لم تفعل الكثير لتخفيف حالة اليأس بين الإسرائيليين الذين يعيشون في الشمال، كما تقول المجلة البريطانية.
ويؤدي استمرار القصف وإجلاء المدنيين في إسرائيل إلى زيادة الدعوات الموجهة إلى حكومة نتنياهو للتحرك بقوة أكبر ضد حزب الله في حرب أوسع. وتقول دانييل ليفي، متطوعة في الشرطة المنهكة في صفد: “الوضع جحيم هنا الآن، لذا قد نخوض حرباً شاملة مع لبنان”. وهذا شعور يسمع على نطاق واسع في المنطقة. إن الضغط السياسي على نتنياهو مكثف بشكل خاص لأن العديد من المستوطنين الأكثر تضرراً هم من بين مؤيديه الأساسيين.
وفي كريات شمونة، صوّت ثلاثة أرباع الناخبين لصالح حزب الليكود، الذي يتزعمه نتنياهو، أو حلفائه في الانتخابات السابقة، ولكن من المستحيل الآن سماع “كلمة طيبة” تُقال عن رئيس الوزراء الأكثر بغضاً لدى الإسرائيليين اليوم.
ويقول شمعون ميمون، وهو متقاعد إسرائيلي: “لقد تم التخلي عنا تماماً، والحكومة عبارة عن مجموعة من الدمى. لقد صوتت لليكود طوال حياتي، لكنني لا أفهم لماذا لا يفعل نتنياهو أي شيء لنا”.
ويتعرض رئيس وزراء الاحتلال أيضاً لضغوط من شركائه في الائتلاف اليميني المتطرف من أجل التصعيد ضد لبنان. وقد طالب بتسلئيل سموتريش، وزير المالية وزعيم الحزب الصهيوني الديني القومي، إسرائيل “باحتلال جنوب لبنان” إذا استمر حزب الله في إطلاق النار. ومع ذلك، في الوقت الحالي، لا يميل القادة على جانبي الحدود إلى السماح للصراع بأن ينفجر ويتحول إلى حرب شاملة.
بين غزة ولبنان.. خيارات إسرائيل المحدودة
وبعد تقليص القتال في غزة حيث تتعرض إسرائيل هناك لخسائر باهظة في الأسابيع الأخيرة، أعيد انتشار بعض وحدات جيش الدفاع الإسرائيلي إلى الشمال حيث تستعد لشن هجوم بري ضد حزب الله. في مثل هذا السيناريو، تقول المجلة البريطانية إن إسرائيل ستسعى إلى احتلال “منطقة أمنية” من شأنها أن تضع المجتمعات الشمالية خارج مدى بعض صواريخ حزب الله.
ولكن من شبه المؤكد أن التوغل البري سيؤدي إلى رد فعل أكثر شراسة من جانب حزب الله، الذي من المحتمل أن يطلق صواريخ قوية وبعيدة المدى قادرة على ضرب أهداف في عمق إسرائيل. ولمنع ذلك، يتعين على الجيش الإسرائيلي أن ينفذ ضربات استباقية على منصات إطلاق الصواريخ ومقرات حزب الله، التي يتمركز العديد منها في مناطق مدنية. حيث وقوع خسائر فادحة في صفوف المدنيين في كل من لبنان وإسرائيل أمر مؤكد في مثل هذه الحرب.
ويحث الحلفاء الأمريكيون إسرائيل على وقف إطلاق النار. وقام عاموس هوشستاين، أحد كبار مستشاري الرئيس جو بايدن، برحلات مكوكية ذهاباً وإياباً إلى المنطقة في محاولة لصياغة وقف لإطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله. ويبدو أن نتنياهو منفتح على هذه الفكرة، على الرغم من أنه أقل حرصاً على الموافقة على وقف القتال في غزة. وفي بيان يتسم بالتحدي يوم 15 يونيو/حزيران، قال إنه “ليس هناك بديل للنصر، وإن على إسرائيل أن تستمر في قتال حماس”، على حد تعبيره.
ما الذي يتطلبه قتال حماس وحزب الله معاً بالنسبة لإسرائيل؟
ويصر بعض الجنرالات الإسرائيليين على أنه إذا لزم الأمر، يستطيع الجيش الإسرائيلي القتال على جبهتين. لكنهم يعترفون بأن القيام بذلك من شأنه أن يرهق الجيش بشكل كبير، والذي يعتمد على مئات الآلاف من جنود الاحتياط، الذين قضى العديد منهم بالفعل أشهراً طويلة من القتال في غزة وتعرضوا لخسائر باهظة.
ويقول أحد قادة الاحتياط الذي كان يقوم بتدريبات تحضيرية لمثل هذه العملية: “للسيطرة على جنوب لبنان سنحتاج إلى عدد أكبر بكثير من القوات، ولكن في الوقت نفسه فإن معظم الوحدات موجودة في غزة أو حولها، لذلك فالخطط غير مكتملة”.
ويرغب الجيش الإسرائيلي في وقف الحرب ضد حماس مؤقتاً، ويفضل أن يكون ذلك من خلال وقف إطلاق النار الذي يضمن أيضاً إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين الذين ما زالوا في غزة. ولكن من المحتمل أن تدفع الهدنة في غزة حزب الله أيضاً إلى وقف إطلاق النار. وهذا من شأنه أن يضع قادة إسرائيل في معضلة ما إذا كان عليهم أن يبدأوا حرباً جديدة لإبعاد الحزب عن الحدود أو السماح لها بالبقاء في وضع يسمح لها بتهديد المستوطنات الإسرائيلية.
وفي عام 2006، بعد حرب سابقة بين إسرائيل وحزب الله، أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار رقم 1701، الذي أمر الحزب بسحب أسلحته ومقاتليه من جنوب لبنان وكذلك إسرائيل.
وتقول الإيكونومست إن الإجماع داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية هو أن الحرب مع حزب الله أمر لا مفر منه. ولكن الرأي السائد بين الجنرالات هو أنه لا ينبغي أن يتم ذلك قريباً في ظل القتال مع غزة.
ونشر اللواء يتسحاق غيرشون، الذي شغل مؤخراً منصب الرجل الثاني في قيادة الجبهة الشمالية، مقالاً في 13 يونيو/حزيران قال فيه إنه على الرغم من أنه كان يؤيد مهاجمة حزب الله مباشرة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، إلا أنه غيّر رأيه منذ ذلك الحين.
وكتب: “يجب أن تتجه إسرائيل إلى ترتيب دبلوماسي مع الحزب، وليس الحرب، في هذا الوقت”، مضيفاً أن استراتيجيتها على مدى الأشهر الثمانية الماضية كانت بمثابة “سباق مجنون وضرب للرأس في الحائط”. وقال إن البلاد بحاجة إلى وقف إطلاق النار في كل من غزة ولبنان لتقييم الأمور وانتخاب حكومة جديدة وإعادة تجميع صفوفها.
ويقول أحد محللي الاستخبارات المخضرمين: “بعد ما حدث مع حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تعلمنا أنه لا يمكننا السماح لأعدائنا بامتلاك قدرات تدميرية على حدودنا. لكن علينا أن نختار التوقيت لأي حرب قادمة”.