في الوقت الذي يغامر عشرات الآلاف بأرواحهم من أجل “حُلم” الوصول إلى الضفة الشمالية من البحر المتوسط، اختار آلاف المسلمين قراراً معاكساً وقرروا العودة إلى بلدانهم الأصلية في جنوب المتوسط، بعد أن تحولت فرنسا من أرض للفرص إلى “جحيم لا يطاق” للكثير من العرب والمسلمين.
ومن بين هؤلاء جالية كبيرة من المواطنين المغاربة ممن ولدوا ونشأوا في بلدان غربية، خاصة فرنسا، تركوا كل شيء وراء ظهورهم فراراً من العنصرية والكراهية، واختاروا العودة إلى وطنهم الأم حيث قالوا إنهم وجدوا شعورا حقيقيا بالانتماء وبيئة أقرب إلى تنشئتهم الاجتماعية.
فقد أوضح أكثر من 1000 مسلم فرنسي في دراسة اجتماعية وصفتها وسائل إعلام فرنسية بأنها “غير مسبوقة”، أنهم يشعرون بالتمييز بسبب دينهم أو أسمائهم أو أصلهم، بينما أكدوا أنهم يجدون الاعتراف الذي حرموا منه في فرنسا التي ولدوا فيها، في بلدان أخرى.
النساء المسلمات الأكثر تضرراً
تعد النساء على رأس المتضررين من هذا الوضع، إذ أدى تزايد الإسلاموفوبيا سياسياً ومجتمعياً إلى إقصاء المحجبات منهم وتهميشهن داخل المجتمع، على الرغم من ولادتهن ونشأتهن في فرنسا، وحصولهن على تعليم عالٍ وامتلاكهن مهارات مهنية مطلوبة.
التمييز والقوانين الفرنسية التي استهدفت المسلمين بدرجة أولى، كثيراً ما أجبرت النساء المسلمات على البحث عن فرص عمل خارج حدود فرنسا، وكشفت تقارير فرنسية أن أغلب المسلمين الفرنسيين اختاروا الذهاب إلى بريطانيا أو إحدى دول الخليج العربي.
بالإضافة إلى مواجهة التمييز في مكان العمل، يعاني الرجال والنساء المسلمون في فرنسا أيضاً من التمييز في التعليم والمجتمع المدني. إذ إن الحظر المفروض على الحجاب في فرنسا يمنع النساء المحجبات من الذهاب إلى المدارس ويؤثر سلباً على حياتهن المهنية ورفاههن العام.
وعلى الرغم من دوافعهن للمساهمة في المجتمع الفرنسي، لا يُسمح للنساء المسلمات بمشاركة مهاراتهن وخبراتهن في البيئات التعليمية. وكثير من هؤلاء اللاتي استقى “عربي بوست” شهاداتهم أكدوا أنهم اختاروا مغادرة البلاد ومواصلة حياتهم المهنية في الخارج بسبب انتشار الإسلاموفوبيا.
بينما يضطر من اختار منهم البقاء في فرنسا إلى اتخاذ قرارات صعبة مثل خلع الحجاب للتوافق مع الضغوط المجتمعية أو الانسحاب من سوق العمل بسبب سياسة التهميش والتمييز.
وتؤدي سياسات الدولة المعادية للإسلام والموقف التمييزي للمجتمع في فرنسا إلى تفاقم المشاكل التي تواجهها النساء المسلمات، اللاتي يشكلن أكثر من 7 ملايين، أو نحو 10٪ من السكان.
تمييز متعمد ونظرة استعلاء
من بين هؤلاء نهلة، شابة فرنسية من أصل مغربي، اختارت الاستقرار في المغرب منذ سنة 2019 بعدما قضت سنوات طوالاً في بلد المولد والنشأة.
وتقول موضحة أسباب قرارها: “تركت فرنسا لأنني لم أعد أستطيع تحمل الفوضى هناك. ولم أعد أشعر بالاتفاق مع المبادئ المنافقة والجاحدة والغادرة والمنحرفة للحكومة وشعبها باستثناء حفنة صغيرة من الناس الذين يرفضون اقتراف الشر وإصلاح أنفسهم حتى لا يسيروا على خطى مرتكبيه”.
تضيف الشابة بحسرة وهي تتحدث لـ”عربي بوست”: “تعليم أطفالنا ممزوج بالوهم، مثل العمل على تلقينهم نظرية التطور والغرس فيهم فكرة أننا ننحدر من قرود” . واستطردت قائلة: “في فرنسا، بات إلقاء التحية أمراً نادراً بشكل متزايد”.
كما تضيف نهلة: “مشاعر الاستعلاء أضحت منتشرة في كل مكان، الآن أصبحوا يهاجموننا، ويمنعوننا من ممارسة شعائرنا التعبدية من خلال إغلاق مساجدنا ومدارسنا وجمعياتنا، ومنعنا من ارتداء الحجاب أثناء العمل… لقد اختارت فرنسا معسكرها مع الفئة الظالمة”.
ما أشارت إليه نهلة، توافقها في الرأي تماماً فاطمة، شابة ثلاثينية لم تتردد في العودة للاستقرار ببلدها الأم، المغرب، حيث أبدت سعادتها بالقرار “الصائب” وفق توصيفها.
تقول نهلة لـ”عربي بوست”: “فرنسا تشن حرباً ضد المهاجرين، خاصة المسلمين، لم يعد هناك أي مستقبل فيها، فنسب البطالة مرتفعة وهناك الكثير من الضرائب. أنا شخصياً أدفع الكثير من الضرائب التي تتزايد باستمرار، خاصة بالنسبة لنا نحن الطبقة المتوسطة”.
وتمضي فاطمة موضحة دوافع مغادرتها: “في فرنسا هذا العام قاموا بإدراج المثلية الجنسية للأطفال في البرنامج التعليمي للمدارس وأنا لا أستطيع تحمل ذلك. إنه أمر خطير وخطير على أطفالنا فهو تدمير دماغ الأطفال وهو الخطر الكلي على أطفالنا”.
الهروب من فرنسا
يؤكد عبد الله زكري، رئيس المرصد الفرنسي ضد الإسلاموفوبيا لـ”عربي بوست” أن كثيراً من العائلات المسلمة اتصلت بالمرصد لتقديم شكاوى بخصوص ما تتعرض له من تمييز داخل المجتمع الفرنسي، وبعضها كي يشعره بأنه غادر فرنسا نحو الإمارات أو حتى بريطانيا “رغم أن كثيراً منهم لا يتقن اللغة الإنجليزية على الإطلاق”.
هؤلاء وفق زكري، متعلمون وأصحاب شهادات جامعية عالية، لم يجدوا لهم مكاناً داخل المجتمع الفرنسي؛ حيث تتنامى الإسلاموفوبيا ويتصاعد صوت اليمين المتطرف.
في هذا السياق، يوضح المتحدث أن المرصد قدم العديد من الشكاوى أمام القضاء، لكن بعضها تم حفظه دون متابعة، وكثير منها يواجه إكراه تعقيد المساطر وطول مدة دراسة الملفات”.
من جهة أخرى، ينبه زكري إلى “سكوت غريب على المستوى الرسمي”، إذ يسجل وفقه “غياب أي تفاعل مع هذه الظاهرة المستفحلة، بل العكس، هناك دعم للخطاب المعادي للمسلمين أحياناً”.
لا حلول لمشاكل المجتمع المسلم
ويتحدث مراقبون عن غياب وجود سياسات موجهة نحو إيجاد حلول للمجتمع المسلم في فرنسا، حيث تم حظر الرموز الدينية، بما في ذلك الحجاب، في المدارس في عام 2004 وتوسعت في عام 2010 لتشمل الحجاب الذي يغطي الوجه بالكامل في الأماكن العامة.
هذه السياسة الممنهجة ازدادت حدة في السنوات الأخيرة، وإذ يعتبر قانون الانفصالية الذي صوت عليه البرلمان الفرنسي سنة 2021، دليلاً قوياً على ذلك. في مقابل زعم الحكومة أن القانون المثير للجدل يستهدف “الإسلام المتطرف” ويروم ضمان “احترام مبادئ الجمهورية” يرى المعارضون له ومن بينهم أحزاب يسارية فرنسية أن غايته التضييق على المسلمين وانتهاك خصوصيتهم.
وفق كثير من علماء الاجتماع، فإن الفرضيات التي استندت عليها النظريات المختلفة لرصد محددات هجرة العودة متباينة ومتعددة.
إذ في حين تربط النظرية الكلاسيكية الأمر بالفشل في الاندماج ببلد الإقامة، فإن منطق اقتصاديات هجرة اليد العاملة ترى أن العودة هي المرحلة المنطقية بعد أن يكتسب المهاجرون ما يكفي من المهارات والمعرفة قصد الاستثمار في بلدانهم الأصلية. في هذه الحالة، يُنظر إلى العودة على أنها مقياس للنجاح.
هجرة العودة.. فشل أم نجاح؟
على الرغم من أن تركيز دراسات الهجرة كان تقليدياً على الهجرة نحو الدول الغربية، إلا أن قضية هجرة العودة حظيت مؤخراً باهتمام متزايد.
ومع ذلك، فقد ركزت الكثير من الكتابات الأكاديمية حول الموضوع على المساهمة التي يمكن أن يقدمها المهاجرون العائدون في التنمية الاقتصادية داخل بلدانهم الأصلية.
ولم يكن هناك سوى القليل من الأبحاث نسبياً حول العوامل الفردية والسياقات التي تحدد هجرة العودة. ولذلك لا يستغرب الباحثون أن تبوء معظم التدابير السياسية المتخذة لتشجيعها بالفشل.
يقول كريم، شاب ثلاثيني، إنه غادر فرنسا حيث ولد ونشأ عام 2014 إلى كندا لأسباب تتعلق بالعنصرية البنيوية بالإضافة إلى ما سماه الاضطهاد العلماني، حيث أصبحت فرنسا في نظره مرآة لإيران في الاتجاه المعاكس.
يقول كريم موضحاً: “أقدر أنه على مدار ثلاثة أجيال، قام مسلمو فرنسا، بعد أن قاتلوا من أجل تحريره، بتضحيات جسيمة لإعادة بنائه دون أن يستفيدوا من نفس الحقوق الاجتماعية التي يتمتع بها مواطنوه الأصليون، الآن، تقوم الحكومة بتمكينهم من المناصب الريادية المهمة ومنح الأولوية لنخبهم المثقفة، وقد توصلت إلى استنتاج مفاده أن هذا البلد لا يستحق كل ما قدمته من أجله، ومن الواضح أنني لست الوحيد”.
“بيئة معادية لقيمنا”
بعد أن استقر رفقة أسرته في كندا، يخطط كريم اليوم للعيش بالمغرب، ابتداء من سنة 2025، ويوضح لـ”عربي بوست”: “وضعنا هنا ليس سيئاً على المستوى المالي، فأنا وزوجتي مديران تنفيذيان ونعيش حياة مريحة، لكن السبب الرئيسي الذي يدفعنا إلى المغادرة هو تعليم الأطفال”.
كما قال: “دعايات المثليين، وتردي جودة التعليم، وصعوبة التحكم في ما يلقن لأولادنا من خلال المقررات المدرسية وسط بيئة يمكن وصفها بأنها معادية لقيمنا، جعلتنا لا نتردد في اتخاذ القرار. إضافة إلى ذلك، شهد البلد في السنوات الأخيرة تدهوراً حاداً في الخدمات العامة وخاصة الصحية”.
يضيف المتحدث لـ”عربي بوست”: “ترددنا بين المغرب أو بلد من بلدان الخليج، لكن استقررنا على المغرب، لأنه يوفر الآن إمكانية التمتع بحياة كريمة، مثل توفر الضمان الاجتماعي، والبنية التحتية الأساسية، والخدمات الصحية التي تشهد طفرة، ومستوى المدارس الخاصة المغربية، والترفيه، وجودة وسائل النقل”.
من جهة أخرى، يقول كريم إن “من بين أهم الأسباب التي دفعتنا للاستقرار بالمغرب، الرغبة في أن يكبر أطفالنا وسط بيئة مناسبة، تسهل عليهم تعلم لغتهم وثقافتهم وتقيهم من انحطاط الغرب الحضاري”.
ويقول: “في مقابل السرعة التي يتغير بها العالم حيث أصبح الفكر المادي هو المعيار الرئيسي للنجاح، لدينا أيضاً واجب أخلاقي تجاه بلدنا الأصلي الذي يستحق. ثم إن النفاق الغربي الذي بدا واضحاً خلال الحرب في أوكرانيا والحرب على غزة أكد لنا حقيقة هذه الدول التي تزعم حرصها على المبادئ والقيم”.