بعد الصدمة التي خلفها في فرنسا صعود اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي، وقرار الرئيس إيمانويل ماكرون المفاجئ حل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية، بدأت تتكشف تفاصيل ما وقع يوم الانتخابات، خاصة فيما يتعلق بموقف المسلمين الفرنسيين ولمن صوتوا بالانتخابات الأوروبية؟
وتصاعدت المخاوف في فرنسا من صعود اليمين المتطرف في الانتخابات التشريعية المقبلة، خاصة بين أحزاب اليسار التي أعلنت توحدها في مواجهة “المد المتطرف”، فيما أعلن زعماء اليمين المتطرف الفرنسي استعدادهم لـ”ممارسة السلطة”، فهل تتوحد أصوات المسلمين الفرنسيين مع أحزاب اليسار؟
قبل الخوض في تفاصيل دعم المسلمين الفرنسيين لأحزاب اليسار، خاصة حزب “فرنسا الأبية” الذي يتزعمه جان لوك ميلنشون، يجب توضيح ما وقع في انتخابات البرلمان الأوروبي، وكيف تمكن اليمين المتطرف من تحقيق نتائج “غير مسبوقة”.
انتخابات البرلمان الأوروبي تصدم ماكرون
مساء الأحد 9 يونيو/حزيران 2024، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حل الجمعية الوطنية الفرنسية ودعا إلى تنظيم انتخابات برلمانية، تجرى دورتها الأولى في 30 يونيو/حزيران والدورة الثانية في 7 يوليو/تموز، وهي خطوة اعتبرتها وسائل إعلام فرنسية مفاجئة.
وجاء قرار ماكرون بعد الإعلان عن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي حقق فيها حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف نتيجة تاريخية بحصوله على 31.5% من الأصوات. وبالتالي، سيكون لديه في البرلمان الأوروبي الجديد من 25 إلى 29 نائباً.
بالمقابل، جاء حزب الرئيس الفرنسي ماكرون “النهضة” في المرتبة الثانية في انتخابات البرلمان الأوروبي، إذ حصل على 15.2% من الأصوات، أي نصف نتيجة التجمع الوطني اليميني المتطرف الذي يتزعمه جوردان بارديلا البالغ من العمر 28 عاماً فقط.
وقال ماكرون: “نتائج الانتخابات الأوروبية لم تكن مرضية للأحزاب التي تدافع عن أوروبا، بما في ذلك حزبنا. أحزاب اليمين المتطرف تتقدم في فرنسا. صعود القوميات والديماغوجيين هو خطر على أمتنا وأيضاً على أوروبا وعلى مكانة فرنسا في أوروبا وفي العالم”.
وتابع الرئيس الفرنسي في خطاب متلفز: “رسالتكم وصلت. لن أترك مشاكلكم وقلقكم بدون أجوبة”، مضيفاً: “أنا واثق في ديمقراطيتنا. لنعطِ إذاً الكلمة لشعبنا السيادي”.
وبحصوله على ما بين 31,5 إلى 32% من الأصوات وفقاً لمعهدي إبسوس وإيفوب، وجّه حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف بزعامة جوردان بارديلا ضربة قوية في انتخابات البرلمان الأوروبي، محققاً أفضل نتيجة له في انتخابات وطنية، وسيساهم بشكل حاسم في صعود قوة المعسكر القومي والسيادي في البرلمان الأوروبي.
أما القائمة الماكرونية بزعامة فاليري هاير عضو البرلمان الأوروبي المنتهية ولايتها وغير المعروفة لدى عامة الناس فتراجعت وحصلت على نحو 15%، يليها الاشتراكي الديمقراطي رافاييل غلوكسمان الذي سجل ما بين 14 و14,3% أي أكثر من ضعف نتيجته في عام 2019.
ولتبرير هذه الانتخابات المبكرة، قال ماكرون إن فرنسا “بحاجة إلى غالبية واضحة للعمل في هدوء ووئام”، مشدداً على أنه “سمع” رسالة الفرنسيين ومخاوفهم. وقال: “لن أتركهم دون إجابة”، وذلك تعليقاً على تراجع حزبه لصالح اليمين المتطرف.
وكان جوردان بارديلا قد أعلن بالفعل أنه سيطالب بحل الجمعية الوطنية بعدما أظهرت استطلاعات الرأي تقدمه قبل انتخابات البرلمان الأوروبي، وطالب بذلك مجدداً الأحد 9 يونيو/حزيران، واصفاً ماكرون بـ”الرئيس الضعيف”، وفق ما نقلته وسائل إعلام فرنسية.
واعتبر الرئيس الفرنسي أن نتيجة انتخابات البرلمان الأوروبي “ليست جيدة للأحزاب التي تدافع عن أوروبا”، مشيراً إلى أن اليمين المتطرف حصد “ما يقرب من 40% من الأصوات” في فرنسا (إذا أضفنا إلى قائمة بارديلا قائمة حزب “الاسترداد” بقيادة إريك زمور).
لمن صوَّت مسلمو فرنسا؟
وفقاً لاستطلاع رأي نشرت تفاصيله صحيفة “La Croix” الفرنسية الثلاثاء 11 يونيو/حزيران 2024، فإنه في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، صوّت 62٪ من الفرنسيين المسلمين الذين شاركوا في التصويت لصالح حزب “فرنسا الأبية” اليساري.
وأوضحت الصحيفة أن هذه النسبة تتماشى مع ما شهدته الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لعام 2022، حيث اختار 69٪ من الناخبين المسلمين جان لوك ميلانشون، الذي كان ينافس الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون الذي فاز بولاية ثانية.
ومع ذلك، تقول الصحيفة، إن نسبة الامتناع عن التصويت في انتخابات البرلمان الأوروبي كانت مرتفعة، حيث وصلت إلى 59٪ بين الناخبين المسلمين، وهي نسبة أعلى بـ10٪ من نسبة الامتناع العامة بين الناخبين الفرنسيين البالغ عددهم أكثر من 48 مليون ناخب، من بينهم نحو 5% من المسلمين.
بعيداً عن حزب “فرنسا الأبية”، حصل رافائيل غلوكسمان على 8٪ من أصوات المسلمين الفرنسيين، في حين حصل حزبا النهضة والتجمع الوطني على 6٪ لكل منهما من أصوات الناخبين الفرنسيين المسلمين الذين شاركوا بالانتخابات الأوروبية.
وأشارت الصحيفة إلى أن انتخابات البرلمان الأوروبي شهدت تراجعاً في دعم المسلمين للرئيس إيمانويل ماكرون، حيث انخفضت نسبة التصويت له من 14٪ في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية السابقة إلى نسبة أقل في الانتخابات الأوروبية.
لماذا صوت المسلمون الفرنسيون لليسار؟
كشف الاستطلاع الي نشرته صحيفة “La Croix” أن 83٪ من الناخبين المسلمين يعتبرون العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة منذ أكثر من 9 أشهر، قضية حاسمة في تصويتهم، مقارنة بـ25٪ فقط من عموم السكان.
هذا الاهتمام الكبير بالحرب في غزة ربما يفسر دعمهم الكبير لحزب “فرنسا الأبية”، الذي ركز بشكل خاص على هذا الموضوع خلال حملته قبيل انتخابات البرلمان الأوروبي، كما أنه وضع الناشطة الفرنسية الفلسطينية ريما الحسن في المركز السابع على قائمته بقيادة مانون أوبري.
وتمكنت المحامية ريما حسن البالغة من العمر 32 عاماً، بمقعد في البرلمان الأوروبي، وتصدّر خبر فوزها الحديث على مواقع التواصل، تزامناً مع الصدمة التي خلفها تقدّم حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف.
وحسب كليمونس غيته، النائبة عن حزب “فرنسا الأبية” ومنسقة برنامجه أن هذه “الاستراتيجية (أي الحديث عن الوضع في غزة) مبررة لأن موضوع غزة تحول إلى رهان أوروبي”. وتابعت: “لم نحول هذا الموضوع إلى تحد انتخابي. إنه طارئ إنساني”.
ويدعم حزب “فرنسا الأبية” واليسار الفرنسي بشكل عام القضية الفلسطينية منذ وقت طويل، إذ يمكن اتهام حزب جان لوك ميلنشون بأنه يركب الموجة ويستغل هذه القضية لتحقيق أهداف سياسية وانتخابية محددة وفق بعض المحللين الفرنسيين.
إلى جانب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، تعتبر الصحة قضية مهمة لـ79٪ من الناخبين المسلمين، مقارنة بـ66٪ من عموم الفرنسيين. كذلك، تعد مكافحة العنصرية والتمييز من القضايا الحاسمة لـ 78٪ من المسلمين، مقابل 41٪ من السكان بشكل عام.
كما تعتبر قضايا رفع الأجور والقوة الشرائية والتعليم ومكافحة الجريمة والسياسة الخارجية ومكافحة البطالة مهمة جداً بالنسبة للأغلبية العظمى من المسلمين، حيث عبرت نسب كبيرة منهم عن أهمية هذه القضايا في توجيه تصويتهم.
دعوة المسلمين لمواجهة اليمين المتطرف
أمام هذا الصعود “التاريخي” لليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي، دعا عميد مسجد باريس الكبير، شمس الدين حافظ، المسلمين في فرنسا إلى المشاركة في الانتخابات التشريعية المبكرة المقررة في 30 يونيو/حزيران لمواجهة تنامي اليمين المتطرف.
وأعرب حافظ في مقاله الأسبوعي الذي نشره الثلاثاء 11 يونيو/حزيران، عن قلقه إزاء ما وصفه بـ”تزايد نفوذ اليمين المتطرف، وتأثيره على الديمقراطية الفرنسية”، وهو الخطاب الذي يتماشى مع ما صرح به الرئيس الفرنسي وزعماء أحزاب اليسار أيضاً.
بينما وصف حافظ قرار ماكرون بحل البرلمان بأنه “مفاجئ ويدخل البلاد في فترة من عدم اليقين والتساؤلات العميقة”، وأوضح أن التعايش مع حزب مارين لوبان يشكل “خطراً كبيراً على الأمة”، محذراً من أن هذا القرار “قد يمهد الطريق لوصول ورثة المارشال بيتان إلى قصر الإليزيه، ما يعيد فرنسا إلى أحلك فترات تاريخها”.
فقد تركت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي انطباعاً لدى اليمين المتطرف الفرنسي بأنه بإمكانه أن يصل إلى الحكم، حيث أعلنت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان بشكل واضح ذلك عندما قالت: “نحن على استعداد لممارسة السلطة إذا منحنا الفرنسيون ثقتهم”.
La Grande mosquée de Paris appelle à «s’opposer fermement à l’extrême droite»
Pour son recteur Chems-eddine Hafiz, le «Maghrébin», le «musulman», sont «devenus les boucs émissaires, les symboles de tout ce qui est perçu comme menaçant, comme étranger»
➡️ https://t.co/DmAFVgOPNZ pic.twitter.com/S9XTqOqzi4— Le Parisien (@le_Parisien) June 11, 2024
وأطلق عميد مسجد باريس نداءً للأحزاب الجمهورية داعياً إياها لمعارضة اليمين المتطرف بحزم وتقديم بديل واضح وموحد، ودعا مسؤولي المساجد إلى توعية المصلين بـ”المخاطر الوشيكة التي تهدد الأمة” وتشجيعهم على التصويت بدلاً من الامتناع عنه.
وقال حافظ: “يجب تذكير الناس بالقيم الأساسية لجمهوريتنا -الحرية والمساواة والأخوة- والتأكيد على أن هذه المبادئ لا يمكن الدفاع عنها إلا من خلال المشاركة الفعالة والمستنيرة. يجب أن تصبح مساجدنا مراكز للمقاومة السلمية ضد جميع أشكال التطرف والتمييز”.
فيما أوضح عميد مسجد باريس الكبير أن صعود حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف يعود إلى الصعوبات الاقتصادية، وفقدان الثقة في الأحزاب التقليدية، والوضع الدولي، كما أشار إلى ما وصفه بـ”وهم الشعور بعدم الأمان الذي يخفي خوفاً عميقاً من الآخر”.
وأضاف عميد مسجد باريس الكبير، شمس الدين حافظ أن المغاربي والمسلم أصبحوا “كبش فداء، ورموزاً لكل ما يُعتبر تهديداً وغريباً وغير متوافق مع هوية وطنية مفترضة متجانسة”، وانتقد الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الرئيسية في تعزيز قوة مارين لوبان وحركتها.