في قلب مكة المكرمة، تقف الكعبة المشرفة شاهداً على عمق الإيمان وتجدد الروح الإنسانية عبر الأزمان. كسوة الكعبة، بحلتها السوداء المهيبة، ليست مجرد قطعة من النسيج، بل رمز من رموز الوحدة والتقديس في الإسلام.
تتجدد هذه الكسوة سنوياً في مراسم تعكس الإتقان والدقة، وتحمل في طياتها حكايات الحرفية العريقة والتفاني في العمل. في هذا المقال، نستكشف أسرار هذا الرمز الفريد، من تاريخه العريق ومراحل تطوره، إلى الفنون والحرف التي تشترك في صناعته بالإضافة إلى سبب رفع الكسوة بمقدار 3 أقدام خلال موسم الحج.
الحكمة من كسوة الكعبة
كسوة الكعبة المشرفة، ذلك الرداء الأسود الذي يزين قلب الإسلام في مكة المكرمة، تمثل أحد الشعائر الإسلامية العميقة التي ترمز إلى الاحترام والتقدير لهذا المكان المقدس. منذ فتح مكة على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم في العام التاسع الهجري، توارث المسلمون هذه العادة حيث كسا النبي الكعبة بثياب يمانية، بتكلفة مغطاة من بيت مال المسلمين.
في ذلك الوقت، حافظ النبي محمد على كسوة الكعبة القديمة حتى احترقت بسبب حادث، ليستبدلها بعدها بأخرى جديدة. وقد تبعه في هذا الخلفاء الراشدون؛ أبو بكر وعمر اللذان كسا كل منهما الكعبة بأقمشة يمانية فاخرة، وكان عثمان بن عفان أول من كساها بكسوتين متتاليتين، ما يعد تقليداً بدأ في عهده واستمر لاحقاً في التاريخ الإسلامي.
تأتي كسوة الكعبة ليس فقط كجزء من تقدير المسلمين للبيت الحرام، ولكنها تعتبر أيضاً تعظيماً له كما جاء في القرآن الكريم: «ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ». وقد استمر هذا التقليد مروراً بالعديد من المراحل التاريخية، حيث تعهد ملوك وسلاطين المسلمين بكسوة الكعبة، مؤكدين على هذه العادة المستمرة حتى يومنا هذا.
كسوة الكعبة من قبل الإسلام إلى العصر الحديث
كسوة الكعبة المشرفة تمثل تقليداً عميق الجذور يعود إلى العصور الجاهلية، حيث كانت تعبر عن التقدير والتكريم لهذا المكان المقدس. تشير الروايات إلى أن تبع الحميري، ملك اليمن، هو أول من كسا الكعبة بشكل كامل قبل الإسلام.
أدخل تبع الحميري أيضاً تحسينات على بنية الكعبة بإضافة باب ومفتاح لها، وتوالت بعده كسوات مختلفة من الخصف والجلود. كان العرب يعتبرون كسوة الكعبة واجباً دينياً يجب المحافظة عليه، وكانوا يكدسون الكسوات فوق بعضها حتى تبلى، ثم يقومون بإزالتها.
خلال عهد قصي بن كلاب، الجد الرابع للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، حدث تنظيم مهم لمهمة كسوة الكعبة. قصي بن كلاب الذي جمع قبائل قومه تحت لواء واحد، قدم نظاماً يعتمد على التعاون بين القبائل لكسوة الكعبة، حيث كانت الكسوة تُعتبر ثمرة “الرفادة” أو المعاونة التي تشارك فيها القبائل.
فيما يعتبر أبو ربيعة عبد الله بن عمرو المخزومي، أحد تجار قريش الثرياء، من أسس نظاماً يقضي بأن يتناوب هو وقريش في كسوة الكعبة سنوياً.
- الكسوة في عهد النبي محمد والخلفاء الراشدين:
بعد فتح مكة، أبقى النبي محمد على كسوة الكعبة كما كانت حتى احترقت أثناء محاولة إحدى النساء تبخيرها. بعد ذلك، كساها النبي بثياب يمانية وتبعه الخلفاء الراشدون في هذا التقليد. أبو بكر وعمر كسا كل منهما الكعبة بثياب القباطي، بينما كساها عثمان بن عفان بثياب القباطي والبرود اليمانية. علي بن أبي طالب لم ترد روايات تفيد بأنه كسا الكعبة، نظراً لانشغاله بالفتن التي حدثت في عهده.
- الدور النسائي في كسوة الكعبة:
نُتيلة بنت جناب، زوجة عبد المطلب وأم العباس، كانت أول امرأة في التاريخ تكسو الكعبة وحدها كنذر لعودة ابنها العباس. يُظهر هذا الدور النسائي المميز في تاريخ كسوة الكعبة كيف كانت النساء أيضاً جزءاً فعالاً في تكريم هذا المكان المقدس
- كسوة الكعبة في العصر الحالي:
تُعد كسوة الكعبة المشرفة من الطقوس الدينية الهامة التي تحظى بمكانة كبيرة في قلوب المسلمين، حيث كانت تُرسل إلى المملكة العربية السعودية من مصر عبر العصور، وذلك حتى العام 1381هـ. خلال هذه الفترة، أحياناً ما كانت الأسباب السياسية تعيق استمرارية الإرسال، لكن في النهاية اختصت المملكة بصناعة الكسوة بشكل دائم.
مراحل تصنيع الكسوة
تصنيع كسوة الكعبة المشرفة هو عمل فني دقيق ومعقد يتطلب الكثير من الخبرة والعناية بالتفاصيل. الكسوة الخارجية، المستخدم فيها نظام الجاكارد، يشتمل على عبارات وآيات قرآنية منسوخة، ويتم تجهيزها بشكل يسمح بإضافة المطرزات بعد ذلك. فيما يلي، نستعرض بعض الجوانب التقنية والفنية لهذا العمل المهم.
تعتبر مرحلة الصباغة هي أولى مراحل الإنتاج الخاص بكسوة الكعبة، إذ يزود قسم الصباغة بأفضل أنواع الحرير الطبيعي الخالص في العالم، ويتم تأمينه على هيئة شلل خام، عبارة عن خيوط مغطاة بطبقة من الصمغ الطبيعي تسمى “سرسين” تجعل لون الحرير يميل إلى الاصفرار، ويتم استيرادها من إيطاليا.
العملية تبدأ بتحويل الخيوط المصبوغة إلى كونات خاصة لتجهيزها على كنة السدى، حيث تحتوي كل كنة على عدد محدد من الخيوط وفقاً لأطوال الأمتار المطلوب إنتاجها. خيوط السدى للكسوة الخارجية، التي تضم حوالي 9986 فتلة في المتر الواحد، تجمع بجانب بعضها البعض على أسطوانة تُعرف بمطواة السدى.
تسمى هذه المرحلة “التسدية”، حيث تمر الأطراف الأولى لهذه الخيوط خلال أسنان الأمشاط الخاصة بأنوال النسيج وتوصل إلى مطواة السدى التي تلف آلياً حسب الطول المحدد.