الأخبار

صراع الطاقة.. هل يشهد العالم أزمة غاز جديدة الشتاء المقبل؟

تتزايد التوقعات حول احتمال اندلاع أزمة عالمية في سوق الغاز الطبيعي، حيث تشير العديد من التقارير إلى أن العالم قد يواجه نقصاً حاداً في الإمدادات قريباً.

إذ تؤثر عدة عوامل، من بينها التغيرات المناخية والتوترات الجيوسياسية، في زيادة الطلب على شحنات الغاز الطبيعي المسال. يُتوقع أن تؤدي هذه العوامل إلى ارتفاع ملحوظ في الأسعار العالمية، خاصة مع قرب فصل الشتاء القاسي الذي يلوح في الأفق في أوروبا، بالتزامن مع زيادة الطلب من الصين، التي تسعى إلى التحول إلى الغاز كجزء من جهودها لخفض انبعاثات الكربون.

وربما تأتي هذه الأزمة في وقت حرج، حيث لم يتمكن الأقتصاد العالمي من استعادة عافيته كما كان متوقعاً في السابق. بالإضافة إلى ذلك، تأثرت مشاريع كبرى، مثل محطة الغاز الطبيعي المسال الروسية في القطب الشمالي، نتيجة العقوبات الاقتصادية، مما يزيد من تعقيد المشهد العالمي. كما تواجه مصر، التي كانت تطمح لأن تكون موردًا رئيسيًا للغاز إلى أوروبا، تراجعًا سريعًا في إنتاجها المحلي، وهو ما يعزز المخاوف بشأن استقرار الإمدادات على المدى القريب.

يبدو أن العالم قد يكون على أعتاب أزمة طاقة كبيرة. فهل نحن على أعتاب أزمة غاز قد تزيد من مشاكل عالمنا المأزوم بالفعل؟

هل هناك أزمة غاز عالمية قريبة؟

في تقرير صادر عن مجلة “الإيكونوميست”، أُشير إلى أن سوق الغاز الطبيعي المسال، الذي أصبح عنصراً حيوياً بالنسبة لأوروبا وآسيا منذ بدء الحرب في أوكرانيا، قد يواجه قريباً أول اختبار حقيقي له. مع تزايد الطلب وتباطؤ تدفق الإمدادات، فقد يكون هناك صراع جديد على الغاز في الأفق.

خلال أسوأ أزمة طاقة شهدتها القارة الأوروبية، بدا الأمر وكأن عام 2025 سيكون عام الخلاص، فمع إغلاق روسيا لخطوط الأنابيب التي كانت تزود أكثر من 40% من احتياجات الغاز الأوروبي، ساد الاعتقاد أن أوروبا إذا تمكنت من تجاوز شتاءين متتاليين، فإنها ستكون قد تجنبت الأسوأ، خاصة بعد أن غمرت مشاريع الغاز الطبيعي المسال الكبيرة في أمريكا وقطر السوق.


فهي تقترب من الشتاء الثالث منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا مع منشآت تخزين الغاز بنسبة 94%، قبل الهدف الذي حددته بأن تكون 90% بحلول نوفمبر/تشرين الثاني. وقد ساعدت عمليات الشراء الضخمة للغاز الطبيعي المسال، والتي شكلت في العام الماضي 60% من واردات الكتلة من الغاز، في تحقيق هذه الغاية.

وكان لهذه النتيجة دور كبير في عمليات الشراء المكثفة للغاز الطبيعي المسال، الذي شكل في العام الماضي 60% من واردات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، مما ساهم في تخفيف حدة الأزمة على القارة العجوز.

وفي هذا السياق، ذكر تيري بروس، الخبير الأول في معهد “Energy Delta Institute”، تواجه أوروبا العديد من التحديات المتعلقة بأسعار الغاز خلال فصل الشتاء المقبل، خاصة في ظل التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، لا سيما حرب غزة.

ويشير بروس إلى أن أسعار الغاز في أوروبا من المحتمل أن تتأثر على المدى الطويل بعاملين رئيسيين: الصفقة الخضراء الأوروبية، التي تهدف إلى تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050، واستخدام روسيا للغاز كسلاح جيوسياسي.

بروس يشير إلى أن أوروبا ستضطر للتعايش مع أسعار غاز تصل إلى حوالي 12 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، وأسعار كهرباء تقارب 100 يورو لكل ميغاوات/ساعة، مشيراً إلى أن الأسعار قبل أزمة الطاقة كانت عند مستويات أقل بكثير، إذ بلغت 8 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية و50 يورو لكل ميغاوات/ساعة.

كما يعتقد بروس أن أسعار الغاز قد لا تتجاوز 20 دولاراً للمليون وحدة حرارية بريطانية، معتبراً أن هذا المستوى غير مستدام، حيث وصلت الأسعار حالياً إلى 15 دولاراً.

ويتوقع بروس أن تبقى الأسعار فوق 10 دولارات خلال فصل الشتاء، مع احتمالية حدوث ارتفاعات إضافية في حال ورود “أخبار سيئة” مرتبطة بالتوترات العالمية. تلك “الأخبار السيئة” قد تكون متعلقة بالتطورات الجيوسياسية، بما في ذلك التصعيد المستمر في الشرق الأوسط.

أما فيما يخص الغاز الطبيعي المسال المصري، الذي يمثل حوالي 1% فقط من استهلاك الاتحاد الأوروبي، فإن بروس يعتبر أن أثره على السوق الأوروبية محدود، ما لم تحدث مشاكل أخرى مع دول رئيسية في تصدير الغاز مثل قطر.

والجدير بالذكر أن مصر سجلت طفرة في صادرات الغاز الطبيعي خلال عام 2022، حيث ارتفعت بنسبة 140% مقارنة بالعام السابق، ووصل إجمالي صادراتها إلى 8 ملايين طن، وفقاً لبيانات وزارة البترول والثروة المعدنية المصرية.

بينما تظل “أزمة الأزمات الكبرى” لأوروبا في ملف الغاز مرتبطة بشكل وثيق بالإمدادات الروسية، كانت روسيا قبل الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية التي تلتها المصدر الرئيسي الذي تعتمد عليه أوروبا في تأمين احتياجاتها من الغاز. وعلى الرغم من الجهود المبذولة للتخلي عن الغاز الروسي، لم تتمكن أوروبا حتى الآن من تحقيق استقلال كامل ومستدام عن تلك الإمدادات.

وفي حديثه مع “CNBC عربية”، أشار تيري بروس إلى أن الغاز الروسي لا يزال يشكل جزءاً كبيراً من إمدادات أوروبا، حيث يمثل غاز الأنابيب الروسي حوالي 7% من الطلب في الاتحاد الأوروبي، فيما يشكل الغاز الطبيعي المسال الروسي 8%. هذا يعني أن إجمالي حصة الغاز الروسي في السوق الأوروبية لا تزال تصل إلى 15%، وهي نسبة مرتفعة للغاية تجعل من الصعب الاستغناء عنها بالكامل.

ويؤكد بروس أن أوروبا تواجه تحديات كبيرة في إيجاد بدائل مستدامة لتعويض الغاز الروسي، موضحاً أنه “لهذا السبب، لا يمكن فرض حظر شامل على الغاز الروسي”. ورغم الضغوط السياسية والاقتصادية، لا تزال روسيا قادرة على استخدام الغاز كسلاح للضغط على الاتحاد الأوروبي. وبينما يستبعد بروس أن يتم ذلك عبر إمدادات غاز الأنابيب، فإنه لا يستبعد إمكانية تسليح روسيا للغاز الطبيعي المسال في المستقبل، مما يزيد من حالة عدم اليقين في سوق الطاقة الأوروبي.

كيف يمكن أن تساهم مشكلة أوروبا في أزمة غاز عالمية؟

مشكلة الغاز في أوروبا قد تتسبب في أزمة غاز عالمية بسبب التأثيرات المتشابكة في السوق العالمية، خاصة في ظل السيناريو الأسوأ الذي يتوقعه تقرير المجلة، الذي يرى أن في حالة انخفاض درجات الحرارة بشكل حاد في أوروبا بحلول ديسمبر/كانون الأول واختفاء الإمدادات الروسية بالكامل بحلول يناير/كانون الثاني.

ورغم أن أوروبا تمتلك مخزونات قياسية من الغاز وموارد إضافية من الطاقة النووية والكهرومائية، إلا أن استنزاف هذه الاحتياطيات سيكون أسرع مما كان متوقعًا، مما سيدفع القارة إلى إجراء أول عملية إعادة تخزين كبيرة منذ أزمة 2022.

حينها سوف تضطر أوروبا إلى التنافس مع آسيا على شحنات الغاز الطبيعي المسال، وهو ما من شأنه أن يرفع الأسعار الفورية.

وتعتقد آن صوفي كوربو من جامعة كولومبيا أن أوروبا قد تصل بسهولة إلى 16 دولارا لكل مليون وحدة حرارية بريطانية في وقت مبكر من العام القادم.

وسوف تكون الدول الآسيوية الأكثر ثراء والصين في مأمن إلى حد كبير، لأنها تشتري قدرا كبيرا من الغاز الطبيعي المسال بموجب عقود طويلة الأجل مرتبطة بأسعار النفط. ومع ذلك، فإن كل مشتريات أوروبا تقريبا تتم إما في السوق الفورية أو مرتبطة بأسعار فورية، ولا تستطيع القارة أن تعيش بدون الغاز، بعد أن أوقفت تشغيل معظم محطات الطاقة التي تعمل بالفحم. ولن يكون أمام الحكومات أو المرافق العامة أو المستهلكين ــ أو مزيج من الثلاثة ــ أي خيار سوى تحمل التكلفة الأعلى، مما سينعكس على الطلب وزيادة أسعار الغاز المسال.

ما تأثير ذلك على الدول ذات الاقتصادات الناشئة؟

وفقاً لتقرير، فالاقتصادات الناشئة الفقيرة، خاصة تلك المكتظة بالسكان، قد تجد نفسها غير قادرة على تحمل التكاليف المتزايدة للغاز الطبيعي المسال. خلال العام الماضي، استفادت بعض هذه الدول من انخفاض أسعار الغاز وعادت إلى السوق، بل وحتى استوردت الغاز الطبيعي المسال للمرة الأولى.

لكن مع ارتفاع الأسعار المتوقع، قد تنتهي هذه الفرصة بسرعة. ارتفاع الأسعار لن يعيد فقط هذه الدول إلى الوراء، بل قد يدفعها إلى التخلي عن الغاز والعودة لاستخدام الفحم كمصدر رئيسي للطاقة، وهو خيار أقل تكلفة ولكنه أكثر تلوثًا.

بالإضافة إلى ذلك، قد تضطر بعض هذه الدول إلى مواجهة انقطاعات متكررة في التيار الكهربائي نتيجة عدم قدرتها على تأمين إمدادات كافية من الغاز.

شركات طاقة عملاقة متهمة بـ"نهب" الغاز قبالة سواحل غزةصراع الطاقة.. هل يشهد العالم أزمة غاز جديدة الشتاء المقبل؟

وانتظار الإمدادات الجديدة قد يستغرق وقتًا طويلاً، مما يضع هذه الاقتصادات في موقف حرج، ويؤدي إلى تدهور أوضاع الطاقة فيها بشكل كبير. في ظل هذا السيناريو، من المحتمل أن يؤدي ارتفاع الأسعار إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والبيئية في هذه الدول، مع تأثيرات طويلة الأمد على قدرتها على الوصول إلى طاقة نظيفة ومستدامة.

و تعاني مصر منذ الصيف الماضي من أزمة في إنتاج الكهرباء، دفعت وزارة البترول والثروة المعدنية إلى اتخاذ قرار بوقف صادرات الغاز الطبيعي المسال اعتبارا من مايو/آيار 2024.

وقد أشار المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية في دراسة إلى أن الحرب في غزة قد تؤثر على مستقبل استثمارات مشاريع الغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث تمثل المنطقة موقعًا استراتيجيًا لمشاريع الغاز.

و تنطوي المخاطر أيضاً على حركة الشحنات وسفن الغاز التي تمر عبر منطقة الشرق الأوسط. وفي حال توسع رقعة الحرب، قد يتزايد الضغط على أمن البنية التحتية ومنشآت الطاقة، لا سيما تلك التي تربط موردي الغاز في شمال أفريقيا بأوروبا. هذه المخاطر قد تؤدي إلى مزيد من حالة عدم اليقين والتقلبات في أسواق الغاز العالمية، مما يزيد من تعقيد التحديات التي تواجه القطاع على المدى الطويل، خاصة في ظل ارتفاع الطلب العالمي وتباطؤ العرض.