جحيم صامت يعيشه العديد من الأطفال على مدار اليوم الدراسي، تلخصه جملة "ليس لي أصدقاء"، تبدأ من بعده سلسلة طويلة من المعاناة التي قد تصل إلى حد كراهية المدرسة والإعراض عن العملية التعليمية بالكامل، البعض يعتقد أنها مشكلة مؤقتة قد تنتهي بمرور الوقت، في حين يراها البعض "طبعا" يلازم المرء من مقاعد الدراسة إلى أرزل العمر. فما السر إذا وراء صعوبة تكوين الصداقات في المدارس؟ وما السبيل إلى حل المشكلة في خطوات بسيطة؟
مأساة يومية متجددة!
أقر 52% من أولياء الأمور الذين شملهم استطلاع أجراه "الاتحاد الناطق باللغة الإنجليزية" في المملكة المتحدة، بأن أطفالهم الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و9 سنوات يجدون صعوبة في تكوين الصداقات، لأنهم يفتقرون إلى الثقة بالنفس عند التحدث إلى الأطفال الآخرين، لكن هذا ليس السبب الوحيد، حيث تتعدد الأسباب وراء صعوبة تكوين الصداقات، وكذلك الآثار السلبية العديدة على الطفل.
قضت وفاء محمد عاما دراسيا مليئا بالمعاناة مع طفلها البكر في عامه الأول بالمدرسة، واصفة تلك الفترة بأنها الأسوأ في حياته حتى الآن، وتروي للجزيرة نت أن اليوم الدراسي كان يبدأ بالبكاء الشديد لرفض الطفل الذهاب إلى المدرسة، ويستمر بالبكاء داخل الفصل وانعدام التركيز، مع شكاوى مستمرة عند العودة إلى المنزل، إضافة إلى رفض تام لأداء الواجبات الدراسية.
وفاء اكتشفت فيما بعد أن السبب يعود إلى أنه أصغر سنا من زملائه، حيث أدخلته المدرسة مبكرا عن عمره الطبيعي، مما تسبب في صعوبة تكوين صداقات، وهو ما انعكس سلبا على تقبله للدراسة بشكل عام.
المشكلة نفسها تعيشها أميرة طلعت مع ابنها مروان البالغ من العمر 12 عاما، والذي يعاني من صعوبة في تكوين صداقات بسبب إصابته بفرط الحركة وتشتت الانتباه، وتوضح أن زملاءه يتنمرون عليه بسبب تصرفاته، مما يجعله يكره الذهاب إلى المدرسة، وتشعر أميرة بالأسى تجاه ابنها، وترى أن الصداقة كانت ستساعده على التطور بشكل أسرع، حيث كان سيستفيد من تبادل الخبرات وتفريغ مشاعره السلبية. لكنها تعبّر عن حزنها بأن القبول الاجتماعي أصبح نادرا، وأن الصداقات الحقيقية كان من الممكن أن تمنحه استقرارا نفسيا، وتضيف لحياته ذكريات مميزة.
كيف تساعد طفلك؟
صحيح أن تكوين الصداقات يستغرق وقتا، لكنه يحدث في النهاية إذا تهيأت الأسباب والبدايات الملائمة لتكوينها، وفي حال واجه الطفل صعوبة في تكوين الصداقات ينصح أخصائي الطب النفسي وعلاج الإدمان الدكتور إيهاب هندي بأن يسأل الوالدان نفسيهما سؤالين أساسيين: هل الطفل متأثر نفسيا من عدم وجود أصدقاء أم إن الأمر عادي بالنسبة له؟ وهل يشعر بضغط ويشكو أو يعاني على المستوى الدراسي لدرجة تؤثر على درجاته ومستواه مثلا؟ خاصة أنه في بعض الأحيان يكون الأهل هم الأكثر تأثرا لعدم وجود أصدقاء وليس الطفل نفسه.
ويقول هندي للجزيرة نت "إذا كان الطفل متأثر نفسيا فيجب على الأسرة زيارة متخصص للمساعدة في استبعاد إصابة الطفل باضطرابات نفسية أو سلوكية، حيث إنه من أشهر الأسباب وراء مشكلة التواصل ومشاكل التفاعل، طيف التوحد، واضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه، في هذه الحالة يساهم التشخيص المبكر في العلاج واستيعاب المشكلة، أما إذا كانت الأسباب ترجع لطبع الطفل نفسه كأن يكون منطويا أو خجولا، أو حاد الطباع، هنا يكون الحل في يد الأسرة نفسها، كأن تتدخل ببعض التعديلات السلوكية، وهو أمر يتطلب جهدا كبيرا لمساعدة الطفل على التواصل مع أصدقائه بشكل مناسب، وصنع دوائر من الأصدقاء المحتملين يمكن إدخال الطفل إليها كالأنشطة الأسرية أو الاجتماعية أو حتى الرياضية، مثل لعب رياضة جماعية يكون فيها التواصل والتفاعل عنصرا أساسيا، وكذلك اللجوء إلى الأنشطة الفنية الجماعية، والتي تؤثر بشكل ملحوظ وكبير في حل المشكلة".
ويضيف "التحدي الحقيقي في تدخل الأهل هو القيام بذلك بطريقة طبيعية دون أن يظهر الأمر كأنه مخطط أو متعمد. وإذا كان الطفل غير قادر على تكوين شبكة علاقاته الاجتماعية بمفرده، يمكن للأهل مساعدته في ذلك، ليس فقط عن طريق التنظيم، ولكن أيضا من خلال تقديم نموذج يُحتذى به. ويمكنهم أن يكونوا مثالا جيدا في التفاعل خلال التجمعات العائلية، وأن يُظهروا كيفية بدء محادثات مع الآخرين في مختلف المواقف، سواء كان ذلك في النادي أو حتى في أماكن عادية مثل السوبر ماركت أثناء التسوق. بهذه الطريقة، يمكن للوالدين تعليم أطفالهم كيفية بدء الحوارات بأسئلة بسيطة، وقد يستغرق ذلك وقتا، لكنه فعال جدا على المدى الطويل، ولتعزيز هذه المهارات، من المهم الاحتفاء بكل مرة ينجح فيها الطفل في كسر حاجز الخجل وتشجيعه على تكرار ما فعله".
وينصح أخصائي الطب النفسي الأهل بضرورة الاستماع لمشاعر الطفل ومخاوفه دون التقليل منها أو تجاهلها بكلمات محبطة مثل "أنت كبير بما يكفي"، أو "المشكلة فيك".. هذه العبارات قد تكون مؤذية نفسيا. بدلا من ذلك، يجب على الأهل أن يعززوا شعور الطفل بالثقة من خلال تأكيد مشاعره والاعتراف بها، مع طمأنته بقدرته على تجاوز الصعوبات. هذه العملية تحتاج إلى صبر وحكمة وفهم لطبيعة الطفل وسماته الشخصية، وإذا كانت المخاوف تؤثر على تحصيله الدراسي، يمكن حينها طلب المساعدة من مختص نفسي.
حلول مبتكرة لصداقة أفضل
توصلت دراسة نُشرت في مجلة تطور الطفل عام 1990 إلى أن الأطفال الذين يملكون عددا أكبر من الأصدقاء في الفصل الدراسي يتكيفون بشكل أفضل مع بيئة المدرسة، ويطورون تصورات أكثر إيجابية عن المدرسة في وقت مبكر من العام الدراسي، وتحديدا بحلول الشهر الثاني.
وهؤلاء الأطفال يميلون أيضا إلى حب المدرسة بشكل أكبر مع تقدم العام الدراسي، ويظهرون مكاسب ملحوظة في الأداء الدراسي عند تكوين صداقات جديدة، وبحسب كلية الطب في جامعة هارفارد، يمكن للأهل مساعدة أطفالهم على تكوين صداقات باستخدام بعض الإستراتيجيات المفيدة.
إستراتيجيات فعّالة
- تعزيز اللطف والرحمة داخل الأسرة: عندما يسود التعامل الحسن بين أفراد الأسرة، فإن الطفل يتعلم نموذجا إيجابيا للتفاعل مع الآخرين، مما يعزز علاقاته في المدرسة.
- تشجيع الحوار العائلي: سؤال أفراد الأسرة عن يومهم واهتماماتهم يمكن أن يدفع الطفل إلى تكرار هذا السلوك مع أقرانه في المدرسة.
- تقليل استخدام الأجهزة الإلكترونية: تؤثر الأجهزة الإلكترونية سلبا على مهارات التواصل الاجتماعي للأطفال، وتزيد مستويات العنف، مما يعيق بناء الصداقات.
- تعليم الطفل كيفية التعبير عن مشاعره: من خلال دعم الطفل في إدارة مشاعره والتعبير عنها بحكمة، يتجنب التوتر ويطور علاقات أفضل.
- تعليم قِيم الاعتذار والتسامح: مساعدة الطفل على فهم أهمية الاعتذار عند ارتكاب خطأ، والتسامح مع الآخرين، يعزز مهاراته الاجتماعية.
- القدوة الاجتماعية: إذا كان لدى الوالدين أصدقاء وتجمعات اجتماعية، فإن ذلك يكون نموذجا يحتذي به الطفل في بناء علاقاته الخاصة.
- الأنشطة المشتركة: تسجيل الطفل في أنشطة رياضية أو فنية تحببه وتدفعه للتفاعل مع أقرانه يعزز تكوين الصداقات.
- التواصل مع آباء زملاء الطفل: دعوة أصدقاء الطفل وأسرهم للأنشطة الاجتماعية مثل النزهات أو الزيارات يعزز العلاقات الاجتماعية.
- التحدث اليومي مع الطفل: من خلال حوار يومي مستمر مع الطفل حول مشاعره وأحداث يومه، يمكن تعزيز ثقته بنفسه وتشجيعه على بناء صداقات إيجابية.
من خلال اتباع هذه النصائح، يمكن للأهل توفير بيئة داعمة تساعد الأطفال على تكوين صداقات وتعزيز تفاعلهم الاجتماعي.