تصاعد مستوى المواجهة بين الاحتلال الإسرائيلي وحزب الله اللبناني بشكل كبير منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث تعرضت الجماعة اللبنانية منذ يوم الثلاثاء الماضي لهجمات إسرائيلية هجينة وقاسية أدت لمقتل العشرات من كوادرها وقياداتها وإصابة آلاف آخرين٬ فيما بدأ حزب الله صباح الأحد في الرد بقصف حيفا لأول مرة منذ 2006 وقام بإدخال بصواريخ جديدة للخدمة ذات قدرات تدميرية٬ وبات من الواضح أن خيار المواجهة الشاملة أو المفتوحة لا رجعة فيه بين الطرفين.
حيث تحدث حسن نصر الله، زعيم حزب الله، يوم الخميس 19 سبتمبر/أيلول 2024 عن “تجاوز إسرائيل لجميع الخطوط الحمراء” بتحويل أجهزة الاتصال اللاسلكي التابعة للحزب إلى أجهزة متفجرة. وفي الوقت نفسه، تحدث يوآف غالانت، وزير الجيش الإسرائيلي، عن تحويل تركيز العمليات العسكرية من غزة إلى الشمال لمواجهة حزب الله٬ حيث قامت “إسرائيل” الجمعة باغتيال مسؤول العمليات الخاصة في الحزب إبراهيم عقيل و14 قيادياً آخر في قوات الرضوان٬ إلى جانب عدد آخر من المدنيين في المكان.
نتنياهو يبحث عن إنجاز في الشمال من خلال زيادة مستوى “الألم” لدى حزب الله
تقول صحيفة The Times البريطانية إنه في حين تتخبط حكومة نتنياهو في حربها ضد حماس في غزة، وتعجز عن إيجاد أي طريقة لحسم الحرب أو إنهائها باستعادة الأسرى الإسرائيليين٬ فإن الهجمات المتزايدة ضد حزب الله٬ وضع لها رئيس الحكومة الإسرائيلية أهداف محددة بوضوح٬ أبرزها ردع حزب الله لإعادة سكان المستوطنات الإسرائيلية إلى منازلهم٬ ومن ثم وقف إسناد حزب الله لحماس.
ومن خلال زيادة مستوى الألم، تحاول “إسرائيل” إيصال حزب الله إلى نقطة الانهيار كي يوافق على صفقة جانبية، تؤدي إلى الهدوء في الجبهة الشمالية٬ مما يسمح بعودة عشرات آلاف الإسرائيليين النازحين بالعودة، وبالتالي تخفيف الضغوط الاقتصادية على حكومة نتنياهو٬ وكذلك تخفيف حالة الاحتقان الداخلي ضدها باعتبار أن تحقيق هذه الأهداف في الشمال سيكون إنجازاً كبيراً.
يقول أبراهام شالوم، رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي (شين بيت)، إن الحروب السرية التي شنتها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية على مدى عقود من الزمان كانت تتألف من “عدم وجود استراتيجية، بل تكتيكات فقط”. وفي رأيه، كانت “العمليات التي نفذتها إسرائيل٬ مثل تفجيرات أجهزة النداء الخاصة بحزب الله، سبباً في كسب الوقت لدى إسرائيل، في حين تركت الأسئلة الأساسية حول السلام في الأمد الأبعد دون إجابة”.
الجرأة لا تكفي إسرائيل لتحقيق مسعاها مع حزب الله
تقول صحيفة “ذي تايمز” إن السؤال المطروح بشأن العملية الاستخباراتية غير العادية التي نفذها الموساد الأسبوع الماضي هو ما إذا كانت ستنجح في دفع حزب الله نحو الغايات الاستراتيجية المرجوة التي وضعتها “إسرائيل”. فلو كانت “الجرأة” وحدها قادرة على فعل ذلك، لربما نجحت إسرائيل في مسعاها٬ لكن الواقع أصعب بكثير.
ومع امتلاء المستشفيات بآلاف الجرحى والمشوهين، بما في ذلك أطفال أعلن عن ارتقاء بعضهم في الهجوم الإسرائيلي على أجهزة النداء “البيجر” التي كانت بيد آلاف الأعضاء من حزب الله، أكدت ردود الفعل العامة في لبنان أيضاً على الضرر الذي لحق بالأبرياء. ولكن تشارلز ليستر، مدير معهد الشرق الأوسط في واشنطن، جادل بأن “إسرائيل لو سعت إلى تحقيق نفس التأثير باستخدام الصواريخ، لكان من الممكن أن يكون هناك مئات، وربما آلاف، من القتلى المدنيين”٬ على حد تعبيره.
استراتيجية حزب الله في التعامل مع التصعيد الإسرائيلي
اعترف نصر الله بأن الأيام القليلة الماضية كانت “ثقيلة للغاية بالنسبة لنا، ودموية”. ورغم أن حزب الله، الذي يستمد الدعم من حاضنته الشعبية الشيعية في لبنان بشكل كبير، نشط في السياسة والبرامج الاجتماعية، فإن قوته تنبع من ترسانته الضخمة من الصواريخ، فضلاً عن كتائبه المخضرمة من الجنود ذوي الخبرة الطويلة.
وقد يؤدي هجوم واسع النطاق من قبل حزب الله على “إسرائيل” إلى سقوط آلاف الصواريخ والطائرات بدون طيار -والعديد منها مجهزة بأنظمة توجيه دقيقة- إلى تدمير البنية التحتية لإسرائيل، من المطارات إلى مصافي النفط ومحطات الطاقة والمواصلات وغيرها.
لكن حتى الآن٬ اقتصر نشاط حزب الله في المقام الأول على الأهداف العسكرية٬ ولكن هل تدفع الهجمات الإسرائيلية المؤلمة حزب الله إلى إطلاق ترسانته الكاملة ضد إسرائيل؟
تقول صحيفة “ذي تايمز” إن حسابات المسؤولين الإسرائيليين الذين تحدثت إليهم تشير إلى أن حزب الله لن يتخذ هذا الخيار، وذلك لأنه تلقى هذه الأسلحة المتقدمة من طهران لغرض محدد: “ردع أي هجوم إسرائيلي على البرنامج النووي الإيراني. وإذا ما استخدم حزب الله كل قوته فإن قوة الردع الإيرانية سوف تستنفد، وسوف يصبح برنامجه النووي عُرضة للهجوم”٬ بحسب ما يعتقد الإسرائيليون.
وهذا يعني أن المناقشات حول ما ينبغي لحزب الله أن يقوم به بعد الآن متوترة ومعقدة٬ فقد تعرض الحزب لـ”الأذى والإهانة”؛ ويتوقع كثيرون منه أن يرد. ولكن في حين تريد إيران أن يستمر حزب الله في ضرب شمال “إسرائيل”، فإنها تسعى أيضاً إلى حماية الترسانة التي قدمتها لحلفائها اللبنانيين كـ”وثيقة تأمين”.
وقد تفاقمت هذه المعضلة في أعقاب خطاب نصر الله للرد على اغتيال القيادي فؤاد شكر، عندما شنت القوات الجوية الإسرائيلية موجة كثيفة من الغارات على جنوب لبنان، مدعية أنها ضربت 150 موقعاً لإطلاق الصواريخ. ويبدو أن هدفها كان إحباط رد حزب الله قبل أن يبدأ في شن هجومه على نحو سليم.
وبما أن حزب الله كان قد أرسل برقية في وقت سابق تفيد بأنه يعتبر قصف العاصمة اللبنانية تجاوزاً للخط الأحمر، فقد بدا اغتيال إبراهيم عقيل ومن معه وكأن الجيش الإسرائيلي يستغل مرة أخرى الفجوة بين ما يرغب حزب الله في القيام به وما يشعر بأنه قادر على القيام به.
خيارات لا يمكن إلا أن تجعل الأمور أسوأ
ويرى إميل حكيم من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية أن “حزب الله يريد أن تنتهي هذه الحرب، لكنه عالق في دوامة لا يستطيع السيطرة عليها في بعض الأحيان، مع خيارات لا يمكن إلا أن تجعل الأمور أسوأ”.
كما يدرك تمام الإدراك أنه في حين لا يزال دعمه قوياً في المجتمع المحلي٬ فإن كثيرين في لبنان من المسيحيين والدروز والسنة لا يريدون الانجرار إلى صراع أكبر٬ ولا يزال هناك من يلوم حزب الله على انفجار مرفأ بيروت عام 2020 وعواقبه الاقتصادية الكارثية. كما لا تزال ذكريات الحرب المدمرة مع إسرائيل عام 2006 مؤلمة.
وبناء على ذلك فإن حسابات “إسرائيل” هي كما يلي: حزب الله المحاصر بين راعي إيراني يمنعه من استخدام أسلحته الأكثر تدميراً٬ وبين الجمهور اللبناني الأوسع الذي يخشى اندلاع حرب أكبر.
وتستشهد “إسرائيل” مرارا وتكرارا بقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي أنهى حربها مع حزب الله عام 2006، والذي تضمن شرطاً يقضي بانسحاب الوحدات المسلحة للحزب إلى الشمال من نهر الليطاني، وهو خط يقع على بعد نحو 30 كيلومتراً إلى الشمال من الحدود.
ولكن هل هناك فرصة للضغط الإسرائيلي على حزب الله للنجاح؟ لم يحدث هذا حتى الآن. ففي خطابه يوم الخميس، رفض نصر الله الفكرة تماماً، وتعهد بمواصلة دعم القتال في غزة. وقال إن الضغط العسكري الذي يمارسه حزب الله على إسرائيل “يشكل أحد أهم أوراق التفاوض التي يملكها الفلسطينيون”.
وتقول لينا الخطيب من مركز تشاتام هاوس للأبحاث: “إن فصل حزب الله عن الصراع في غزة ليس احتمالاً واقعياً بالنسبة لإسرائيل. إن حزب الله لن يسمح لنفسه بأن يُنظَر إليه باعتباره قد تخلى عن حماس وحلفائه الآخرين”.
ومن خلال اتخاذ هذا الموقف، يمكن للمجموعة اللبنانية أن تتأكد من أن إيران وجزء كبير من سكان لبنان سوف يستمرون في دعمها. وعلى هذا فإن الجمود لا يزال قائماً، وتخطط إسرائيل لخطواتها التالية لرفع مستوى الألم.
خيارات حكومة نتنياهو
لكن هنا تصبح حسابات حكومة نتنياهو أكثر ضبابية٬ ذلك أن التهديدات باستهداف مطار بيروت أو أجزاء أخرى من البنية الأساسية المدنية في لبنان لم يكن لها حتى الآن تأثير يذكر على حزب الله، وقد تتسبب في مشاكل مع الأميركيين، الذين أعربوا عن رغبتهم في تجنب المزيد من التصعيد. وعلى نحو مماثل، فشلت تحركات القوات والتلميحات بشأن غزو بري لجنوب لبنان في تغيير موقف حزب الله الذي يقول إنه مستعد لهذه السيناريوهات وإلحاق الهزيمة بجيش الاحتلال.
لذا فمن المتوقع أن تزيد إسرائيل من الضغوط، وأن يحاول حزب الله كذلك إرسال صواريخ وطائرات بدون طيار أطول مدى وأكثر تدميراً إلى الجنوب. وقد يبدأ الجيش الإسرائيلي في شن هجمات أعمق داخل لبنان، مستهدفاً على وجه التحديد بعض الأنظمة بعيدة المدى التي قد تهدد بنيته التحتية الوطنية في حالة اندلاع حرب شاملة. ومن شأن مثل هذه الخطوة أن تدفع حزب الله وإيران إلى معضلة “استخدامها أو خسارتها”.
ويزعم يائير لابيد، زعيم المعارضة في إسرائيل، أن نتنياهو يقود البلاد نحو حرب “متعددة الساحات” ضد أعدائها العديدين، بما في ذلك إيران. وفي الداخل والخارج، يقول أعداء رئيس الوزراء نتنياهو على أنه “رجل يعتمد في إحكام قبضته على السلطة٬ على الصراع الدائم”.