قد تكون هجمات “البيجر” وأجهزة اللاسلكي الأخرى التي نفذها الاحتلال الإسرائيلي في لبنان على مدار يومي الثلاثاء والأربعاء، أصعب ضربة تلقاها حزب الله اللبناني طوال مسيرته، كما يقول محللون مقربون من الحزب، باعتبار أن ما حدث خرق أمني باغت الجماعة بأدوات غير مسبوقة، كما أن هذه الهجمات خرقت جميع السقوف وأدت لانهيار سياسة الردع التي ثبتها الحزب مع الاحتلال منذ سنوات طويلة.
ولا شك أن نتنياهو يشعر الآن بنوع من النشوة مع تراجع الزخم المعارض له في الشارع الإسرائيلي، والذي حاول الضغط عليه للذهاب بصفقة عاجلة مع حماس لاستعادة الأسرى الإسرائيليين، حيث نقل رئيس حكومة الاحتلال عدسات الكاميرات واهتمام الشاشات نحو لبنان بعد هذه الهجمات التي أودت بحياة 32 لبنانياً وإصابة نحو 3250 آخرين، وفتحت نذر التصعيد الأكبر في الشمال.
وتقول الصحافة العبرية إن ما يدور في رأس نتنياهو بعد هذا التصعيد هو سيناريوهين: ردع حزب الله وفرض اتفاق عليه في الشمال لإعادة الإسرائيليين إلى منازلهم المهجرة، أو استغلال رد فعل حزب الله الغاضب لشن حرب شاملة على لبنان سيجد لها نتنياهو تبريرها أمام العالم.
ما الذي يريده نتنياهو من هذه الهجمات الخطيرة على حزب الله؟
تقول التقارير الأمريكية والإسرائيلية، إن حزب الله كان على وشك اكتشاف العملية التي كانت “إسرائيل” تعمل عليها منذ سنوات، والتي تم فيها تفخيخ آلاف أجهزة النداء التي وزعها حزب الله على عناصره. وقبل لحظات من “حرق” العملية، قررت “إسرائيل” التحرك. وكانت النتيجة ضربة قاسية لعمل حزب الله ومعنويات حاضنته الشعبية، فقد أصيب الآلاف من عناصره في مناطقة مختلفة من لبنان، وتبين أن عملياته القتالية كانت شفافة إلى درجة غير معلومة بعد، وعرضة لخطر الاختراق الإسرائيلي.
وسبق أن أصدر حسن نصر الله تعليمات علنية في فبراير/شباط الماضي إلى عناصر الحزب بالتوقف عن استخدام الهواتف المحمولة الذكية خشية اختراقها من قبل الاستخبارات الإسرائيلية. وبدلاً من ذلك، تم تزويد أعضاء الحزب بنماذج قديمة من أجهزة النداء “البيجر” على افتراض أنها أكثر أمناً ولا يمكن اختراقها وكشف معلومات كبيرة حولها.
لكن كان التحول إلى أجهزة النداء كارثياً، وتحول الأمر أيضاً إلى أجهزة الاتصال اللاسلكية. وكما أشار المحلل ديفيد إغناتيوس من صحيفة واشنطن بوست، فقد “حولت إسرائيل الأداة الآمنة التي يستخدمها حزب الله إلى سلاح ضده”.
وعصر يوم الثلاثاء، وفي غضون دقائق، تحول الانشغال الإسرائيلي بالتقارير التي تفيد بأن نتنياهو يعتزم تعيين زعيم “حزب الأمل” (اليمين الموحد) جدعون ساعر وزيراً للدفاع بدلاً من يوآف غالانت، نحو مشهد التصعيد في الشمال واحتمالات الحرب الواسعة مع حزب الله.
وتقول صحيفة هآرتس، إنه من المفترض أن تكون هذه العملية “المؤلمة والمعقدة” بمثابة ورقة يلعبها نتنياهو لاستنزاف الحزب في بداية هجوم عسكري أوسع. وعلى الرغم من الفارق الكبير في الحجم والنطاق، فإن كثيرين يقارنون “عملية الثلاثاء” بعملية “موكيد” التي دمر فيها سلاح الجو الإسرائيلي مئات الطائرات المقاتلة المصرية والسورية في بداية حرب الأيام الستة عام 1967. لكن الآن لم ترد أنباء عن غارات جوية إسرائيلية ضخمة أو عمليات برية في الأراضي اللبنانية ضد حزب الله.
حزب الله بين خيارين لا ثالث لهما
يقول عاموس هاريل الكاتب والمحلل الإسرائيلي، إنه من الناحية النظرية على الأقل، هناك خطر قائم يتمثل في أن يلجأ حزب الله إلى تصعيد الصراع على الحدود إلى حرب شاملة رداً على “الهجوم المهين” الذي تعرض له في قلب بيروت.
لكن يرى البعض أن الحزب مجبر على عدم الانجرار وراء ضربات نتنياهو والاستمرار في سياسة الاحتواء مع تصعيد الهجمات على شمال “إسرائيل” درجة أعلى، لأن نتنياهو يحتاج الآن إلى مبررات لتنفيذ هجوم كاسح وغير مسبوق على لبنان، ربما يشابه ما يحصل في غزة من دمار.
في المقابل فإن استمرار سياسة احتواء الضربات الإسرائيلية وعدم الرد بشكل متناسب عليها، يؤدي إلى تآكل سياسة الردع وتجرأ “إسرائيل” على توجيه ضربات أكثر إيلاماً مما يتخيله حزب الله أو إيران، مما سيفقد الحزب صورته التي عمل على بنائها لسنوات طويلة، على الأقل داخل حاضنته الشعبية في لبنان، لذلك فإن الحزب (وإن فقد عنصر المفاجأة منذ وقت طويل) ملزم بالذهاب إلى أبعد مدى من الحرب مع نتنياهو وتوسيع رقعة الصراع بأسلحة جديدة.
بالنسبة لإسرائيل، لم يتم تعديل أهداف الحرب إلا في اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي مساء الاثنين، عشية العملية، بحيث تشمل “إعادة النازحين من الشمال إلى ديارهم” (على الرغم من أن نتنياهو كان يعرض هذا في خطاباته كهدف منذ عدة أسابيع بالفعل). ومن المرجح أن يستغرق الأمر عدة أيام أخرى قبل أن يتضح ما إذا كانت قيادة الاحتلال قد أعدت أي تحرك استراتيجي في أعقاب الضربة التي تلقاها حزب الله يومي الثلاثاء والأربعاء، فهل ستوجه “إسرائيل” المزيد من الضربات لحزب الله أم أنها ستكتفي بما حققته على افتراض أن حزب الله قد تعرض للترهيب الكافي؟
وثمة تفسيرات محتملة لسبب موافقة نتنياهو على تعديل أهداف الحرب الآن، وتغيير استراتيجية إسرائيل الشمالية، أهمها انسداد الأفق في المعركة في قطاع غزة بعد الفشل في حسمها واستعادة الأسرى على الأقل لإرضاء الجمهور الإسرائيلي، أو تدميرات قدرات حماس بالكامل (كما يعد نتنياهو) واخماد قوتها وإنهاء هجماتها التي تستنزف الجيش كل يوم.
الأمر الآخر أن نتنياهو يأمل أن تؤدي الضغوط المتزايدة في لبنان إلى دفع حزب الله في نهاية المطاف إلى نقطة الانهيار والانفصال عن حماس وعدم ربط هجماته بمصير أي اتفاق حول قطاع غزة. ويعتقد نتنياهو أن نصر الله سوف يتوصل إلى استنتاج مفاده أن الثمن الذي يدفعه حزب الله مقابل مساهمته في إسناد حماس في غزة باهظ للغاية.
وعلى إثر هذه الفرضية، فسوف يسعى نصر الله إلى التوصل إلى اتفاق منفرد لوقف إطلاق النار تنسحب بموجبه وحدات رضوان التابعة لحزب الله إلى شمال نهر الليطاني، وبالتالي تمكين بعض الإسرائيليين على الأقل من العودة إلى منازلهم على الحدود مع لبنان، مما يحفظ لنتنياهو ماء وجهه أمام الجمهور الإسرائيلي الغاضب.
الإجابات لدى نصر الله
ولم يعد لدى أحد شك أن نتنياهو يحاول جر حزب الله إلى حرب شاملة، فالحزب يعتمد الاستراتيجية الإيرانية التي تفضل الصراعات منخفضة الشدة دون دفع تكاليف باهظة، ولكن إذا وقع نصر الله في “فخ التصعيد” الذي نصبه له نتنياهو، فسوف تتمكن إسرائيل من “الاستفادة من أي شرعية دولية تتمتع بها لشن حرب شاملة على لبنان”.
ويبدو أن اللبنانيين يشكون في صحة السيناريو الأخير. فقد زعمت مصادر مقربة من حزب الله يوم الأربعاء أن الجماعة كانت على علم بالنوايا الإسرائيلية. ولكن الحقيقة هي أن كل هذا مجرد تكهنات. فقد منع نتنياهو مساء الثلاثاء الوزراء من إجراء مقابلات مع وسائل الإعلام، والتزم كبار قادة جيش الاحتلال الصمت، كما تقول صحيفة هآرتس العبرية.
ربما تكون الإجابة على هذه الأسئلة عصر يوم الخميس عندما يلقي السيد حسن نصر الله خطاباً منتظراً له في بيروت. وفي الوقت نفسه، نشر إبراهيم الأمين، رئيس تحرير صحيفة الأخبار اللبنانية والمعروف بقربه الشديد من قيادة الحزب مقالاً حاول فيه شرح موقف حزب الله. ووصف هجوم الثلاثاء بأنه “الأكبر منذ بداية الصراع”، وقال: “نحن في وضع جديد، وحزب الله سيسعى إلى رد متكافئ”.
في النهاية، يبدو أن كل هجوم تشنه “إسرائيل” على حزب الله، يهدف إلى تقويض ثقة الحزب بنفسه وزعزعة جبهته الداخلية وحاضنته الاجتماعية، وجعله يشك في كل شيء الآن، والتدقيق في جميع سلاسل التوريد التي كان يتعامل معها منذ سنوات، لكن الأهم من هذا كله، أن هذه الهجمات الأخيرة تقرب حزب الله من الحرب الشاملة، سواء أراد ذلك أم لا.