من حالفه الحظ وزار ملعب مستايا معقل فريق فالنسيا الإسباني، حتماً سيلفت انتباهه تمثال ضخم وضعه النادي في مكان مميز على المدرّج الرئيسي.
التمثال البرونزي يجسّد رجلاً يمسك عصا في يده، يروي قصة حقيقية يمكن وصفها بأنها إنسانية وعاطفية تدلّل على ارتباط الناس بكرة القدم ومدى عشقهم لها حد الجنون، وفي الوقت نفسه تُبيّن قيمة الوفاء والإخلاص من قبل الأندية لجماهيرها الذين يترك كثيرون منهم أعمالهم وأشغالهم وحتى أموراً هامة في حياتهم العائلية من أجل تشجيع الفريق واللاعبين. فما قصة هذا التمثال؟ ولمن يعود في الأساس؟
قصة تمثال مشجع فالنسيا
يعود هذا التمثال لمشجع إسباني يُدعى فيسينتي نافارو، حصل على عضوية فالنسيا في عام 1948، ومع مرور الوقت، أصبح أيقونة حقيقية للنادي وجماهيره على حدٍ سواء.
عاش نافارو العديد من اللحظات العاطفية على مدرجات ملعب مستايا، وكان شاهداً على إنجازات الفريق وفي الوقت نفسه عانى كثيراً في وقت الانكسارات والهزائم الثقيلة.
لكن يبدو كل ذلك أمراً معتاداً في عالم كرة القدم، فحتى الآن لا شيء خارج عن المألوف في قصة المشجع فيسينتي نافارو، فالكرة يوم لك وآخر عليك، يوم تفرح وتفوز بنتائج عريضة، وتحقق ألقاباً، وأخرى تحزن حتى الصدمة وتخسر بنتائج ثقيلة وتُهزم في النهائيات.
في الواقع، فإن القادم من السطور يحمل في طياته العديد من النقاط الإنسانية التي جعلت من الكفيف فيسينتي نافارو بطلاً حقيقياً في أعين أنصار فالنسيا.
من هو فيسينتي نافارو وما قصة عشقه لفالنسيا؟
وُلد فيسنتي نافارو يوم 22 مارس/ آذار 1928 في حي كابانيال. عائلته كلها كانت من أنصار ليفانتي باستثناء والده العاشق الوحيد لفالنسيا.
بدأ شغف فيسينتي بكرة القدم بالظهور في سن مبكّرة جداً بفضل عمه ويُدعى إديلميرو الذي اصطحبه إلى ملعب ميستايا وهو بعمر 4 سنوات فقط.
عاش فيسينتي أول فرحة له حين حقق “الخفافيش” لقب كأس ملك إسبانيا موسم 1966-1967 بعد الفوز على أتلتيك بيلباو بنتيجة 2-1، يومها سافر فيسينتي إلى مدريد بسيارته الشخصية سيات 600 مصطحباً معه ابنه فيسنت البالغ من العمر 9 سنوات.
فيسنت قال لاحقاً إن والده سافر بهذه السيارة إلى نصف مدن إسبانيا من أجل تشجيع فالنسيا، وفي أحد الأيام احتفل بتتويج الفريق بلقب الدوري الإسباني موسم 1970-1971 رغم الخسارة على أرض إسبانيول صفر-1، وهي من الذكريات العالقة في ذاكرة أنصار “الخفافيش”.
معاناة فيسينتي مع العمى لم تحد من عشقه لفالنسيا
في الحقيقة عرف فيسينتي المعاناة من أول يوم جاء فيه إلى الدنيا، حيث وُلد مبصراً بعين واحدة فقط قبل أن يفقد النظر تماماً وهو بعمر 54 عاماً (أي في عام 1982) بسبب انفصال في شبكية العين جاء نتيجة حادث عمل في شاحنة صهريج.
لم يفقده العمى شغفه بكرة القدم وبفالنسيا، حيث كان يتابع مجريات المباريات من على مدرجات ميستايا بأعين ابنه فيسنت الذي كان يصف له كل ما يدور على أرض الملعب.
فعلى مدار 3 عقود كان فيسينتي يداوم على حضور مباريات فالنسيا من على المدرجات، وحين علمت إدارة فالنسيا بذلك تم نقله إلى المدرج الرئيسي.
على الرغم من أن فيسينتي كان يحب الذهاب إلى الملعب ليشجّع فالنسيا إلا أن الظروف كانت تجبره أحياناً على متابعة مباريات فريقه المفضّل عبر شاشة التلفزيون خاصة في المسابقات الأوروبية، حدث ذلك فعلاً يوم 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1993 حين حلّ “الخفافيش” ضيوفاً على كارلسروه الألماني في إياب الدور الثاني من بطولة كأس الاتحاد الأوروبي (الدوري الأوروبي حالياً) فحدث ما لم يكن متوقعاً.
يقول ابنه فيسنت: “عندما يلعب فالنسيا في أوروبا كنا نذهب إلى منزل والدي وهذا ما فعلناه في المباراة ضد كارلسروه حيث فاز فريقنا ذهاباً 3-1 لكنه خسر في الإياب صفر-7، يومها كان فيسينتي غاضباً جداً لدرجة أنه أخبرني أنه لن يشاهد فالنسيا على شاشة التلفزيون مرة أخرى”.
توفي فيسنتي نافارو في عام 2016 عن عمر ناهز 88 عاماً، وقبل ذلك بعام واحد توقّف عن الذهاب إلى ميستايا مجبراً بسبب تردّي حالته الصحية.
تمثال تخليداً لفيسينتي نافارو
في مارس/ آذار 2019 وأثناء احتفال نادي فالنسيا بالذكرى المئوية لتأسيسه، قرّرت الإدارة تكريم فيسينتي نافارو الذي عاصر عدداً من الرؤساء أمثال خاومي أورتي وبيدرو كورتيس وخوان باوتيستا سولير، وذلك من خلال صناعة تمثال يجسّد شخصه ووضعته في المقعد رقم 164 من الصف الخامس عشر للمدرج الرئيسي من ملعب ميستايا.
وقال ديفيد غونزاليس النحات الذي صمم التمثال: “لم تكن المهمة سهلة فقد كان علينا القيام بذلك في أسرع وقت ممكن، في النهاية لقد استغرق الأمر شهرين من بدء العمل فيه حتى تم صبه بالبرونز، وهو وقت قياسي”.
ومن سوء حظ فيسينتي أن هذا التكريم جاء بعد ثلاثة أعوام من وفاته، لكنه في الوقت نفسه كان المشجع الوحيد الذي تواجد على مدرجات الملاعب الأوروبية في فترة وباء كورونا حيث أُقيمت المباريات خلف أبواب مغلقة، باستثناء فالنسيا الذي تمتع بميزة الحصول على الدعم والتشجيع حتى لو كان ذلك من خلال تمثال، فقيمة فيسنتي المعنوية أكبر من ذلك بكثير.
ومع عودة الجماهير الجزئية إلى الملاعب يوم 5 مايو/ أيار 2021 كان فيسينتي ينتظر أنصار فالنسيا بالعصا، لقد ظلّ وحيداً على المدرجات لمدة 421 يوماً لذا كسب امتياز أنه الأول والأخير من بين عشاق كرة القدم المتواجدين على المدرجات طيلة فترة وباء فيروس كورونا.