مع استمرار الحرب المدمرة التي تشنها “إسرائيل” على قطاع غزة، يتعرض الفلسطينيون لمزيد من السياسات الرامية إلى تغيير معالم المدن والمحافظات، ومصادرة أراضيهم وتحويلها إلى مشاريع تخدم أهداف الاحتلال العسكرية والسياسية.
وتعد سياسة
شق الطرق العسكرية
واحدة من أبرز هذه السياسات، حيث تفصل بين المدن والمحافظات في قطاع غزة، وتفرض واقعا جغرافيا جديدا يعيق حركة المواطنين ويزيد من صعوبات حياتهم اليومية.
هذه الطرق ليست مجرد ممرات، بل تعتبر أدوات تعمق الاحتلال وزيادة معاناة الفلسطينيين، ضمن سياسة الإبادة المستمرة التي تسعى لتهجيرهم وفرض واقع جديد على الأرض.
شق الطرق العسكرية في غزة: فصل جغرافي وحصار خانق
يعتبر محور “نِتْساريم” أحد أخطر الطرق التي شقتها “إسرائيل” مؤخرا في قطاع غزة، حيث يمتد بطول 7 كيلومترات من منطقة كيبوتس “بئيري” شرقا وصولا إلى ساحل البحر المتوسط غربا. ويفصل هذا المحور مدينة غزة وشمالها عن وسط وجنوب القطاع، ليشكل حاجزا يقيد حركة الفلسطينيين جغرافيا ويعرقل تنقل الشاحنات المحملة بالمساعدات والبضائع بين الشمال والجنوب.
ومع توسيع عرض الطريق ليصل في بعض المناطق إلى نحو 2 كيلومتر، يقول منسق اتحاد بلديات قطاع غزة حسني مهنا لوكالة الأناضول إن “الجيش الإسرائيلي صادر مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، ودمر مربعات سكنية واسعة على جانبي الطريق”.
وأنشأ الجيش الإسرائيلي حاجزين عسكريين، أحدهما عند تقاطع الطريق الجديد مع شارع صلاح الدين شرقا، والآخر عند تقاطعه مع شارع الرشيد غربا، يمر من خلالهما النازحون الفلسطينيون الهاربون من جحيم الجوع والعطش والبطش الإسرائيلي.
ويروي الشاب الفلسطيني (م.س) الذي نزح من شمال غزة إلى جنوبها، تجربته في المرور عبر حاجز “نتساريم” الغربي على شارع الرشيد الساحلي، قبل نحو شهرين. يقول الشاب لمراسل الأناضول، مفضلا عدم نشر اسمه لدواع أمنية: “كان الأمر مرعباً، فقد تم توقيفي واحتجازي لساعات عديدة دون أي توضيح، وكان الجنود المختبئون خلف مكعبات إسمنتية وآليات مدرعة، يطرحون أسئلة تبدو بلا معنى، شعرت وكأنني في منطقة حرب مغلقة”.
ويصف التواجد العسكري الكثيف والمركبات المدرعة في المكان إضافة للتجهيزات العسكرية، بأنها “تجعل كل من يحاول العبور يشعر وكأنه في مواجهة دائمة مع الموت، وأن فرص النجاة ضئيلة جدًا”.
عزل وتدمير من “نتساريم” إلى “فيلادلفيا”
أما محور فيلادلفيا على الحدود المصرية الفلسطينية جنوب قطاع غزة، والذي يمتد على طول 14 كيلومترا فيعتبر أبرز الطرق الحدودية التي تستخدمها دولة الاحتلال لعزل القطاع عن العالم الخارجي، خاصة بعد سيطرتها على معبر رفح منفذ غزة الوحيد إلى مصر.
وزعم الجيش الإسرائيلي في تصريحات متعددة أن سيطرته على محور فيلاديلفيا جاءت بسبب وجود أنفاق أسفله زعم أنها تستخدم لتهريب الأسلحة إلى القطاع.
وادعى إنه اكتشف ودمر عشرات الأنفاق أثناء عمليته العسكرية البرية في مدينة رفح، زاعما أن هذه الأنفاق كانت السبب في قدرة حركة حماس على شن هجوم 7 أكتوبر.
وترفض مصر هذه الاتهامات، مؤكدة أنها دمرت مئات الأنفاق على جانبها من الحدود قبل سنوات، وأنشأت منطقة عسكرية عازلة لمنع التهريب، ورغم ذلك تستمر دولة الاحتلال في استخدام الشريط الحدودي ذريعة لمواصلة السيطرة والتدمير.
ويعكس محور فيلادلفيا بشكل كبير استراتيجية “إسرائيل” في التذرع بالأسباب الأمنية لتبرير توسعها الجغرافي وفرض المزيد من القيود على الفلسطينيين واحتلال أرضهم وتقطيع أوصالها.
مصادرة وتهجير آلاف العائلات
ما يسمى بـ”طريق ديفيد” هو طريق أمني شقه الجيش الإسرائيلي لعزل جنوب غزة عن مصر بشكل كامل، حيث يمتد من معبر كرم أبو سالم التجاري حتى شارع صلاح الدين. وهذا الطريق تسبب في نسف مئات الوحدات السكنية، مما أدى إلى تشريد آلاف الفلسطينيين وتهجير عائلات كانت تعيش على هذه الأراضي لعقود.
وفي مقابلة مع المزارع محمود أحمد الذي تمت مصادرة أرضه الزراعية شرق مدينة رفح، لصالح هذا الطريق، تحدث عن الألم الذي يشعر به بعد فقدان أرضه التي كانت مصدر رزقه الوحيد.
ويقول أحمد الذي يشعر بالإحباط واليأس، لمراسل الأناضول: “كانت الأرض كل ما أملك، كنت أزرعها وأعيل عائلتي من المحاصيل التي تنتجها، واليوم لا أملك شيئا”. مشيراً إلى أن الجيش الإسرائيلي لم يكتفِ بتدمير الأرض بل ألحق الأضرار بحياة العديد من العائلات التي كانت تعتمد على الزراعة كمصدر رئيسي للدخل.
وحال أحمد يشبه إلى حد كبير حال المزارع رياض شملخ، الذي فقد أرضه في حي الشيخ عجلين جنوب غرب مدينة غزة، لصالح محور نتساريم. ويقول: “لقد صادر الاحتلال مئات الدونمات التي كانت مزروعة بالعنب والتين وأنواع مختلفة من الخضار، وقام بتجريفها بالكامل”.
تغيير جغرافي يستهدف معالم قطاع غزة
يقول مهنا؛ إن الأراضي التي تمت مصادرتها في محور نيتساريم كانت في الأساس أراضٍ زراعية ذات أهمية كبيرة للفلسطينيين، لكنها جُرّفت وتحولت إلى ممرات عسكرية تخدم أهداف الاحتلال. ويقول: “إن الجيش الإسرائيلي يسعى إلى تغيير معالم المدن والمحافظات في قطاع غزة بشق هذه الطرق لأهداف عسكرية وسياسية”. ويضيف: “هذه الخطوات تأتي ضمن سياسة قهر الفلسطينيين نفسيا وتجريدهم من أملهم في استعادة أراضيهم أو العيش في أمن واستقرار”.
أما رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، رامي عبده، فيصف إجراءات الاحتلال بأنها “تكريس لسياسة قضم الأراضي وطرد السكان”. ويرى عبده في تصريح لمراسل الأناضول، أن شق هذه الطرق ليس مجرد إجراء عسكري مؤقت، بل هو جزء من مخطط أوسع لتغيير الطابع الديموغرافي والجغرافي لقطاع غزة.
ويضيف: “الهدف الرئيسي من وراء هذه السياسات هو إفراغ المناطق من سكانها الأصليين وفرض واقع جديد على الأرض يتوافق مع المخططات الإسرائيلية طويلة الأمد”.
ويشير إلى أن هذه السياسات تُمارس تحت غطاء عسكري، لكنها في الواقع تهدف إلى السيطرة الدائمة على الأراضي الفلسطينية وتشويه معالمها الجغرافية والديموغرافية، وهو ما يتعارض مع القوانين الدولية التي تحظر مثل هذه الإجراءات بحق السكان المدنيين تحت الاحتلال.
ويشكل الانسحاب من محوري فيلادلفيا ونتساريم أبرز الخلافات العالقة بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس في مفاوضات وقف إطلاق النار، ويصر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على احتلال بالمحورين. فيما تصر حماس على تنفيذ اقتراح وقف إطلاق النار الذي طُرح في الثاني من يوليو/تموز الماضي، وترفض الشروط الإسرائيلية الجديدة. كما ترفض مصر بقاء القوات الإسرائيلية في محور فيلادلفيا، واعتبرت القاهرة ذلك يمس بأمنها القومي.
وبدعم أمريكي مطلق، يشن الاحتلال الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حرباً مدمرة على غزة خلفت أكثر من 136 ألف قتيل وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قاتلة. وفي استهانة بالمجتمع الدولي، تواصل “إسرائيل” هذه الحرب متجاهلة قرار مجلس الأمن الدولي بوقفها فورا، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية ولتحسين الوضع الإنساني الكارثي بغزة.