“يا بابا نفسي أروح المدرسة مثل إخوتي”.. هكذا تحدثت الطفلة رهف، ذات السبع السنوات لوالدها أحمد، التي يفصل بين بيتها وبين المدرسة أكثر من 31 كيلومترًا، ويستغرق الذهاب إليها ما يقارب الساعة في ساعات قلة الذروة.
يقول أحمد لـ”عربي بوست”، إنه لم يستطع إرسال الطفلة على مدار عامي مرحلة الـ«الكي جي»، ورغم أن العام الدراسي لم يتبق عليه سوى أيام قليلة، إلا أن كل جهوده لنقل طفلته لمدرسة قريبة من بيته باءت بالفشل.
وأضاف أحمد أنه حاول نقل ابنته في إطار عمليات التحويل للمدارس داخل المنطقة السكنية التي يسكن بها، ولم يتبق سوى حل واحد، وهو أن أنقل الأسرة بالكامل وأنتقل للسكن في أكتوبر، وهذا مستحيل في ظل وجود 3 إخوة لرهف في مدارسهم بالعمرانية.
نموذج أحمد وطفلته رهف، واحد من آلاف الأسر المصرية التي تعاني من أزمة وقف التحويل لمناطق سكنهم من قبل وزارة التربية والتعليم المصرية، وذلك تحت ذريعة أن هناك كثافة داخل الفصول بمدارس الإدارة التعليمية التي يسكن في نطاقها الأسر.
وقد تنصل المسؤولون في الإدارة التعليمية في حديثهم للأسر عند توزيع أبنائهم في مدارس بعيدة عند التقديم على المدارس التجريبية، ولم تكن تلك المدارس ضمن رغباتهم، ولكنهم قالوا لهم إن هذا أمر مؤقت في فترة الروضة فقط، وذلك بحسب ما رصدته “عربي بوست” من عشرات الحالات.
ليس هناك حل
آدم محمد، والد الطفلة صدرة، يروي لـ”عربي بوست”، كيف كانت مسيرته في محاولة نقل طفلته، ويقول: “في البداية كنا ننتظر بدء مرحلة التحويل بين المدارس في شهر يونيو الماضي، وبالفعل تم فتح التحويل عبر المنصات الإلكترونية، ولكن المفاجأة أننا وجدنا منطقة العمرانية التعليمية مغلقة، ولا يمكن التحويل إليها”.
“ذهبنا إلى الإدارة التعليمية، وكانت الأعداد بالآلاف، وحينها تحدث معنا المدير وقال إن الأمر ليس من عنده، ولكن من قبل مديرية التربية والتعليم لمحافظة الجيزة والوزارة، وأنه غير مسموح بنقل أطفال لمدارس ذات كثافة مرتفعة، والشرط الوحيد أن يحضر أولياء الأمور ورقة من المدرسة التي يرغب التحويل إليها، تثبت أن لديه مكان لطفله، وهو الأمر الذي وجدناه مستحيلًا أن يقوم به أي مدير مدرسة”.
ويكمل آدم حديثه لـ”عربي بوست”: “في نهاية شهر يوليو أخبرنا أحد الأشخاص في الإدارة التعليمية بأن نتقدم بالتماس، وبالفعل تقدم معظم أولياء الأمور بتلك الورقة دون فائدة، والآن المدارس على الأبواب وأبناؤنا محرومون من الذهاب إليها ولا يوجد حل”.
الأزمة ليست في القاهرة فقط
«نركب مواصلات ونسير لمدة كيلو ونصف يوميًا».. بهذه الكلمات ترسم أم جميلة معاناتها المرتقبة في رحلة يومية تنتظرها مع بدء العام الدراسي لذهاب ابنتها إلى المدارس حيث انتقلت إلى مدرسة سنهور الإعدادية بنات رغم أنها تسكن في مدينة طامية في محافظة الفيوم، ويبعد سكنها عن مدرسة ابنتها 16 كيلومترًا، وهو ما يكشف أن الأزمة ليست في القاهرة فقط.
وتلك واحدة من آلاف الحالات في الكثير من مناطق مصر، والتي تنتظر مهامًا وصفتها بالصعبة نتيجة للتعليمات التي تنص على حظر النقل بين المدارس والإدارات والمديريات التعليمية إلا بتأشيرة من الوزير تحمل نصها «فوق الكثافة»، مما تسببت في صعوبات كبيرة للأسر.
ومع ضخامة الأزمة الاقتصادية في السنوات الأخيرة وتكدس الفصول تنطلق رحلة مؤلمة لولي الأمر أحمد سيد الذي يعمل محاميًا لينقل ابنه من مدرسة لأخرى قريبة من قريته التي سكن بها مؤخرًا.
وقال سيد لـ”عربي بوست” : “منذ أسابيع وأنا أقوم برحلات يومية (كعب داير) متجهًا إلى المديريات والموظفين ووكلاء الوزارة ومكتب خدمة المواطنين لبعض النواب بحثًا عن تدخل وساطة للحصول على على تأشيرة (فوق الكثافة) من مكتب الوزير دون جدوى”.
أما مصطفى الذي يعمل حدادًا في محافظة سوهاج فيقول: “بقالي شهرين أدور على مكاتب الوزارة أملًا في الحصول على تأشيرة الوزير لنقل ابني وفي النهاية حصلت عليها بعد وساطة من ابن عم أحد النواب في دائرتنا ولكنني بعدما قدمتها إلى المدرسة وبعد ختمها من المديرية والإدارة رفضوها لعدم وجود أماكن والكثافات زايدة، إذ برر لي مسؤول بالمدرسة رفضه قائلا:«مفيش مكان» .
يضيف: “رجعت بالتأشيرة فقالوا لازم تدخل لجنة التجريبيات في الإدارة لكي تبحث كل تأشيرات فوق الكثافة وتحدد المقبولين في كشف يرسل للمدرسة. استمررت في الذهاب للإدارة كل أسبوع لمعرفة قرار اللجنة. وأخيرًا وافقت بعد أسبوع من بدء الدراسة”.
تداعيات الأزمة تتفاقم
ولكن يبدو أن تداعيات الأزمة تتفاقم خلال هذا العام، وقد أصدرت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني، قرارًا وزاريًا حمل رقم 136 بتاريخ 2024، بشأن نظام الدراسة والتقويم في الصفوف الابتدائية.
وشمل القرار تطبيق المناهج الدراسية المقررة على الصفين الأول والثاني الابتدائي: اللغة العربية، واللغة الإنجليزية، ومتعدد التخصصات، والتربية الدينية، والتربية البدنية والصحية، والرياضيات، وأنشطة التوكاتسو، بمجمل 15 فترة، وتكون مدة الفترة الدراسية 100 دقيقة.
وشدد قرار وزير التربية والتعليم والتعليم الفني على أنه يجب حضور التلميذ بالصفين الأول والثاني الابتدائي بنسبة لا تقل عن 60% للفصلين الدراسيين، لأداء المهام المذكورة، وفي حالة عدم حضور التلميذ هذه النسبة، لا ينقل للصف الأعلى إلا بعد اجتياز البرنامج العلاجي الذي تقوم بإعداده المدرسة، في نهاية العام الدراسي.
يقول الخبير التربوي عماد مغيث، إن العديد من الأسر المصرية تواجه عقبات بالغة في عملية نقل أولادهم الطلبة بين المدارس، حتى في الحالات الاضطرارية مثل الانتقال من مسكن لآخر في ظل ارتفاع أسعار الإيجارات المبالغ فيها مما جعل أولياء الأمور عاجزين عن إيجاد حل للأزمة.
ويضيف مغيث لـ”عربي بوست”: «هذه التعليمات جعلت الأسر تجد صعوبة في توفير بيئة تعليمية مستقرة لأبنائها، ما يجعل مصير أبنائهم التعليمي في يد تأشيرة الوزير»، متسائلًا: «هل ينتظر الآلاف أن ينظر الوزير بعين الرحمة إلى الأسر؟ حتى والكثير من تلك التأشيرات لا يتم الأخذ بها داخل المناطق التعليمية».
يضيف: “المدارس الحكومية في مصر أصبحت مشكلة كبيرة وليست مؤسسة للتعليم والتربية خاصة مع حالة التضييق المستمرة في إجراءات النقل ومن قبلها زيادة عدد الطلاب وعدم كفاية المدارس اللازمة لاستقبال ملايين الطلاب في كل عام دراسي”.
ويتوقع الخبير التربوي أن يضطر العديد من الطلاب الذين وجدوا صعوبة في النقل من مدرسة إلى أخرى إلى الغياب الأمر الذي يخلق مشكلة أخرى تكمن في اضطرار الأسر إلى الدروس الخصوصية حتى في المرحلة الابتدائية، لتكون الدروس هي البديل والحل الوحيد أمامهم لتلقي التعليم وفهم المناهج.
وعلى نحو متصل قال الدكتور مجدي حمزة، الخبير التربوي، إن أزمة النقل هذا العام بسبب رغبة الوزير في التأشير بنفسه على كل طلب مستبعدًا دور وكيل الوزارة معتقدا أن ذلك الإجراء سيحل الأزمة، ولكن للأسف هذا يفتح بابا للمجاملات.
ويضيف حمزة لـ”عربي بوست”، أن زيادة الكثافة الطلابية، وتكدس الفصول بالتلاميذ تؤرق مصر منذ عشرات السنوات وليس حديثة العهد كغيرها من أزمات التعليم حتى تحولت المدارس إلى مبانٍ روتينية لا تقدم خدمة تعليمية مناسبة للطلاب.
وأشار حمزة إلى أن الميزانية الموضوعة للعملية التعليمية في مصر ارتفعت بنسبة 2% من الإنفاق العام في الموازنة العامة للدولة من 230 مليار جنيه إلى 299 مليار جنيه، وأغلبها يذهب إلى بند الأجور في حين أن هناك نقصًا في المدارس وبالتالي قلة الفصول مما يزيد من صعوبة التعليم وتكدس الطلاب ويؤدي إلى أزمة نقل كما حدث مؤخرًا.
وشدد الخبير التربوي على ضرورة إيجاد حلول جذرية لأزمة النقل لأنها تخص آلاف الأسر، وليس العشرات، خاصة وأنها تكلف الأسر مصاريف إضافية ووقت وجهد إضافي، مما يعمق أزمة تعليمية في مصر، خاصة فئة المستويات الدنيا التي تفقد مهارات القراءة والكتابة بسرعة، ويحتاجون إلى متابعة مع المعلم باستمرار.
ودعا حمزة الحكومة إلى عمل فترات إضافية وتعيين مدرسين جدد، خاصة أن مصر تعاني من عجز يقدر بربع مليون مدرس، جراء وقف قرارات التعيين منذ عام 1996، في الوقت الذي يتقاعد عدد كبير من المدرسين كل عام عند بلوغهم سن المعاش.
المبرر تقليل الكثافات
ولكن من جهته يقول أشرف سلومة وكيل وزارة التربية والتعليم بالجيزة إن قرار الوزير باختصار إقرار تأشيرة النقل بتوقيعه لا يضر الطلاب بل بالعكس يمنح العدالة في تحقيق طلبات النقل.
ويضيف سلومة لـ”عربي بوست”، أن القرار يساعد في تحجيم المخالفات التي تحدث في عملية النقل التي قد تؤدي إلى تكدس مدارس وفراغ أخرى، مشيرًا إلى أن هناك خطة أعدتها الوزارة لتقليل الكثافات بحد أقصى من 40 إلى 45 طالبًا، عبر إرسال تقرير مفصل قبل توزيع الكثافات وبعد التوزيع لكل مدرسة مع ذكر المعوقات إن وجدت.
كما لفت إلى أن وزارة التربية والتعليم تعتزم استغلال المباني التكنولوجية في المدارس الثانوية للاستفادة منها في توزيع الكثافات الطلابية.
والسؤال الذي يؤرق أحمد، والد الطفلة رهف، هو ما تردده له ابنته دائمًا: “ليه إخوتي يذهبون إلى المدرسة وأنا لأ”، وعبر عن ولي الأمر عن شعوره بالعجز تجاه تلك الأزمة التي حاول أن يجد لها حلًا بكافة الطرق، وتساءل: “كيف يستطيع الوزير أن يصدر قرارا بفصل ابنتي في ظل عجزها عن الذهاب إلى المدرسة التي أجبرها على الالتحاق بها وهي على بعد عشرات الكيلومترات عن منزلنا”.