وصل زعماء من 50 دولة أفريقية إلى بكين هذا الأسبوع لحضور قمة هامة، التي تختتم يوم الجمعة بخطة تمتد حتى عام 2027 لتعزيز العلاقات بين الصين وإفريقيا. في حفل افتتاح القمة الكبرى التي انعقدت يوم الخميس، أعلن الرئيس الصيني شي جينبينغ عن تخصيص (360 مليار يوان صيني) 50 مليار دولار لتمويل مشاريع تنموية في إفريقيا خلال السنوات الثلاث المقبلة، مع وعده أيضًا بالمساهمة في خلق مليون فرصة عمل جديدة في القارة.
يُدار هذا التعاون يُدار من خلال منتدى التعاون الصيني الإفريقي (FOCAC)، وهو مؤتمر يعقد كل ثلاث سنوات لوضع استراتيجيات جديدة للتعاون بين الصين والدول الإفريقية. وخلال كلمته في افتتاح القمة، أشاد الرئيس شي جينبينغ ومعه القادة الأفارقة برؤية مشتركة لمستقبل زاهر، على الرغم من التحديات المرتبطة بالديون، واختلال التوازن التجاري، والضغوط الجيوسياسية التي تؤثر على علاقات الصين بالقارة.
كم حجم التبادل التجاري بين الصين وأفريقيا؟
على مدى العقدين الماضيين، عززت الصين وجودها الاقتصادي في إفريقيا بشكل ملحوظ، حيث استثمرت مليارات الدولارات في مشروعات البنية التحتية مثل الطرق والسكك الحديدية والموانئ في مختلف أنحاء القارة. ونتيجة لذلك، أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر لإفريقيا، والمستثمر الأكثر نفوذاً في العديد من دولها، وأكبر دائن لها.
وبلغت قيمة التجارة بين الصين والدول الإفريقية في عام 2022 أكثر من 250 مليار دولار، وفقًا للسجلات المتاحة. ومع ذلك، كان الجزء الأكبر من هذه التجارة يعتمد على استيراد الصين للمواد الخام من إفريقيا، مثل النفط والمعادن، في حين ركزت صادرات الصين إلى القارة على السلع المصنعة. هذا النمط التجاري يعكس اعتماد إفريقيا على تصدير الموارد الطبيعية مقابل استيراد المنتجات المصنعة، مما أثار تساؤلات حول التوازن التجاري بين الجانبين، إذ يبلغ الفائض التجاري للصين مع القارة حوالي 64 مليار دولار.
هل أفادت التجارة مع الصين إفريقيا أم أضرتها؟
تعود هذه العلاقة التجارية الرئيسية بشكلها الحالي إلى عام 1999، عندما أطلق الحزب الشيوعي الصيني استراتيجيته المعروفة بـ”الخروج”، التي هدفت إلى تعزيز الروابط الاقتصادية مع دول العالم. في عام 2003، انعقد منتدى التعاون الصيني الإفريقي (FOCAC) لأول مرة، وهو الآن يُعد منصة شراكة رئيسية تجمع بين الصين و 53 دولة إفريقية.
في البداية، ركزت الصين على استيراد أكبر قدر ممكن من المواد الخام من إفريقيا لدعم صناعتها المحلية وتصدير منتجاتها إلى الأسواق العالمية. على سبيل المثال، في أنغولا، قدمت الصين قروضاً ضخمة لتمويل مشروعات البنية التحتية في مقابل الحصول على إمدادات نفطية طويلة الأجل. ونتيجة لهذه الصفقات، أصبحت أنغولا مدينة للصين بحوالي 18 مليار دولار، وهو ما يمثل أكثر من ثلث ديونها الخارجية.
وتتهم الصين باتباعها استراتيجيات إقراض تُوصف بالاستغلالية تجاه إفريقيا. ويشير المنتقدون إلى أن الصين تُقنع الحكومات الإفريقية باقتراض مبالغ ضخمة لتمويل مشاريع بنية تحتية وتنموية، وحينما تواجه تلك الدول صعوبات في سداد الديون، تُطالبها الصين بتقديم تنازلات قد تشمل السيطرة على موارد طبيعية أو الحصول على امتيازات اقتصادية وجيوسياسية. هذا النوع من الممارسات يُعرف أحيانًا بـ”دبلوماسية فخ الديون”، حيث يُزعم أن الصين تستخدم الدين كأداة لتعزيز نفوذها في الدول النامية.
قد تراكمت الديون على بعض الدول الأفريقية للصين، فبجانب أنجولا توجد زامبيا بأكثر من 10 مليارات دولار، وكينيا 6 مليارات دولار، وفقا لأرقام مركز تشاتام هاوس. ووجدت كل هذه الدول صعوبة بالغة في سداد هذه المبالغ.
رغم أن الصين تصف استثماراتها في إفريقيا بأنها “مربحة للجانبين”، يرى بعض الخبراء الأمر بشكل مختلف. على سبيل المثال، يشير البروفيسور ستيف تسانغ من كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن (SOAS) إلى أن الصين كانت مستعدة لتقديم قروض لتمويل مشروعات في إفريقيا، مثل السكك الحديدية، وهي مشروعات قد امتنعت الدول الغربية والبنك الدولي عن تمويلها نظرًا لأنها، بحسب رأيهم، “لا معنى لها تجاريًا”. ويضيف: “أما الآن فقد وجدت العديد من الدول الأفريقية أنها لا تحصل على ما يكفي من العائد من تلك المشاريع لسداد القروض”.
بينما يشير الدكتور أليكس فاينز من مركز تشاتام هاوس، إلى أن المقرضين الصينيين لأفريقيا أصبحوا اليوم أكثر انتقائية في اختيار المشاريع. فهم يبحثون الآن عن مشاريع تتمتع بجدوى مالية أكبر وقابلة للتمويل بسهولة.
كما أن الصين قد حولت تركيزها بشكل ملحوظ بعيدًا عن مشاريع البنية التحتية الضخمة مثل الطرق والسكك الحديدية والموانئ، نحو تزويد الدول الإفريقية بتكنولوجيا عالية التقنية، مثل شبكات الاتصالات 4G و5G، الأقمار الصناعية، الألواح الشمسية، والمركبات الكهربائية. هذا التحول يعكس رغبة الصين في تعزيز نفوذها الرقمي والتكنولوجي في القارة، بما يتجاوز مشاريع البنية التحتية التقليدية.
الصفقات والتعهدات خلال قمة منتدى التعاون الصيني الأفريقي
لكن وفقًا لوسائل الإعلام الصينية، نجح الزعماء الأفارقة خلال افتتاح منتدى هذا العام في تأمين عدد كبير من الاتفاقيات لتعزيز التعاون في مجالات البنية التحتية، الزراعة، التعدين، التجارة، والطاقة. وأشار الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى أن أكثر من نصف المبلغ المخصص سيكون على شكل قروض، بينما سيتم تقديم 11 مليار دولار كمساعدات متنوعة، إلى جانب 10 مليارات دولار تُستخدم لتشجيع الشركات الصينية على الاستثمار في إفريقيا.
وأضاف الرئيس شي أن الصين وإفريقيا، سيعملان على تحقيق أهداف مشتركة للتنمية الخضراء. وأوضح أن الصين مستعدة لإطلاق 30 مشروعًا للطاقة النظيفة في إفريقيا، إلى جانب دعم أهداف الطاقة النووية، وهو ما سيساهم في معالجة النقص الكبير في الكهرباء الذي طالما أعاق التوسع في التصنيع في القارة.
وأكد شي جينبينغ استعداد الصين “لتعميق التعاون” مع إفريقيا في مجالات البنية التحتية والتجارة، معلنًا عن خطط لتنفيذ 30 مشروعًا لربط البنية التحتية في القارة وإنشاء شبكة صينية-إفريقية برية وبحرية. كما أبدى استعداد بلاده للمساهمة في تطوير منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، وتعزيز التعاون في مجالات اللوجستيات والتمويل، بما يحقق تنمية شاملة في مختلف أنحاء القارة.
ووفقاً لصحيفة الفاينانشيال تايمز، على الرغم من مشاكل الديون في القارة – والسجل الضعيف لبعض مشاريع مبادرة الحزام والطريق – فقد كثف القادة الأفارقة دعواتهم لمزيد من الاستثمار في الاجتماعات الثنائية مع شي.
إذ أشار الرئيس الزامبي هاكيندي هيتشيليما إلى إبرام صفقة بين شركة الكهرباء الوطنية الزامبية، زيسكو، وشركة باور تشاينا الصينية، تهدف إلى توسيع استخدام الألواح الشمسية على الأسطح، في خطوة لتعزيز الطاقة المتجددة في بلاده.
بينما، وقّعت نيجيريا، التي تُعد واحدة من أكبر المدينين للصين في القارة، اتفاقية مشتركة مع بكين لتعميق التعاون في مجالات البنية التحتية، بما في ذلك مشاريع النقل، والموانئ، والمناطق التجارية الحرة.
أما جنوب أفريقيا، فقد أشاد الرئيس سيريل رامافوزا بزيادة حجم التجارة الثنائية بين بلاده والصين، لكنه دعا بكين إلى استيراد المزيد من السلع الجنوب أفريقية، والمساهمة في بناء مزيد من المصانع في الدولة الأكثر تصنيعًا في إفريقيا. كما وجه دعوة إلى شركتي BYD وCATL الصينيتين للاستثمار في إنتاج السيارات الكهربائية والبطاريات في بلاده، في إطار جهود جنوب أفريقيا لتضييق العجز التجاري وتعزيز التصنيع المستدام الذي يوفر فرص العمل.
من جانبها، حصلت الرئيسة التنزانية سامية سولو حسن على التزام من شي لتسريع التقدم في مشروع السكك الحديدية منذ فترة طويلة الذي يربط بلادها بدولة زامبيا المجاورة.
في تنزانيا، حصلت الرئيسة ساميا سولوهو حسن على تعهد من الرئيس الصيني شي لتسريع تنفيذ مشروع السكك الحديدية الذي يربط بلادها بدولة زامبيا المجاورة، وهو مشروع استراتيجي طال انتظاره.
أما زيمبابوي، فقد تلقت وعودًا من بكين بتعزيز التعاون في مجالات الزراعة، التعدين، والطاقة التقليدية والجديدة الصديقة للبيئة، بالإضافة إلى تطوير البنية التحتية للنقل، وفقًا لبيان مشترك صادر عن البلدين.
مواجهة أمريكية صينية بأفريقيا
يرى العديد من المحللين أن هذا السخاء من بكين يأتي في سياق تنافس جيوسياسي متزايد مع الولايات المتحدة وحلفائها. إذ يعتبرون أن مبادرات الصين في إفريقيا، سواء من خلال تمويل مشاريع البنية التحتية أو التعاون في مجالات التكنولوجيا والطاقة، تمثل جزءًا من استراتيجية أوسع لتعزيز نفوذها على الساحة العالمية. هذا التوجه يسعى إلى توطيد علاقات الصين مع الدول النامية، حيث تصبح الصين بطلة الجنوب العالمي، خاصة فيما يُعرف بالجنوب العالمي، بما يعزز من دورها كلاعب رئيسي في النظام الدولي ويزيد من تأثيرها في إعادة تشكيل موازين القوى العالمية.
بالإضافة إلى ذلك، تسعى بكين إلى الاستفادة من هيمنتها باعتبارها أكبر شريك تجاري لأفريقيا لإبرام صفقات التعدين المربحة وفرص التصدير لدعم اقتصادها المتعثر، وفقا للمحللين، في حين تعمل على صد المنافسين الجيوسياسيين في القارة، بما في ذلك الولايات المتحدة. ففي أواخر أغسطس/آب الجاري، اتجهت أول شحنة من النحاس من مناجم جمهورية الكونغو الديمقراطية في أفريقيا إلى الولايات المتحدة، عبر ممر لوبيتو للسكك الحديدية (Lobito Atlantic Railway). ويحظى ممر لوبيتو بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اللذين أصدرا بيانا مشتركاً في سبتمبر/أيلول 2023 للتعاون في تطوير الممر. كما يعد ممر لوبيتو أول ممر اقتصادي استراتيجي يتم إطلاقه في إطار شراكة مجموعة السبع للبنية التحتية العالمية والاستثمار (PGII).
يقول موقع “أسباب” للشؤون الاستراتيجية، إن ممر لوبيتو يمثل خطوة أمريكية مهمة في اتجاه تعزيز علاقتها ونفوذها في القارة الأفريقية ومواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية، كما يساهم في تأمين إمدادات المعادن الحرجة غير المرتبطة بالصين، إذ يأتي في إطار الجهود الأمريكية والأوروبية لمواجهة النفوذ الصيني المتزايد في قطاع المعادن الحرجة داخل أفريقيا. ويوفر الممر طريقا أسرع وأقل تكلفة لنقل المعادن الحرجة المنتَجة في وسط أفريقيا إلى الأسواق الأمريكية والأوروبية بدلا من الطريق الشرقي التقليدي عبر ميناء دار السلام.
فوفقاً، للموقع تحتدم المنافسة بين أمريكا والصين من أجل توسيع نفوذهما على أسواق المعادن الدولية. فقد شهد العقد الماضي تطوراً دولياً ملحوظا في التحول من الوقود الأحفوري إلى الطاقة النظيفة أو ما يعرف بـ “تحول الطاقة” (Energy transition)، مما جعل الحصول على المعادن الحرجة بما يشمل الليثيوم والنحاس والكوبالت التي تمثل عنصرا جوهريا في سلاسل توريد الطاقة النظيفة أمرا بالغ الأهمية للولايات المتحدة والصين وأوروبا. ومن المتوقع أن يرتفع الطلب العالمي على المعادن الحرجة بشكل كبير في العقود المقبلة، وتقدر وكالة الطاقة الدولية أن الطلب سيتزايد خلال العقدين القادمين بمقدار من 20 إلى 40 مرة.
ومع ذلك لا يزال الطريق طويل أمام أمريكا لتضييق الفجوة مع النفوذ الصيني المتزايد في القارة الغنية بالموارد القيمة، إذ تحتل بكين مكانة الشريك الموثوق به، ولا يزال الاستثمار الصيني في أفريقيا أعلى بكثير من أمريكا والدول الغربية.