في الوقت الذي كان الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، يلقي خطابًا أمام أنصاره في مدينة وهران في إطار حملته الرئاسية، يوم الأحد 26 أغسطس/آب 2024، كانت أروقة الأمم المتحدة وبالضبط في مكتب المنظمة بجنيف، مسرحًا لمواجهة نادرة بين الجزائر ومالي بسبب الأحداث المشتعلة على الحدود بين البلدين.
حيث انتقدت الجزائر مقتل
15
شخصًا بينهم أطفال، في هجمات بطائرات مسيّرة يوم 25 أغسطس/آب، على بلدة تين زاوتين في شمال مالي، قرب موقع تعرض فيه الجيش المالي ومرتزقة فاغنر الروسيةلضربة قوية شهر يوليو/تموز الماضي، في وقت دافعت فيه باماكو عن عمليتها العسكرية ضد الطوارق.
فيما تبدو أن الأوضاع مرشحة للتطور في المنطقة، سنحاول من خلال هذا التقرير توضيح ما الذي يحدث في منطقة “تين زاوتين” الحدودية داخل التراب المالي، وتأثير ذلك على العلاقة مع الجزائر، وكيف من الممكن أن يؤثر تواجد “فاغنر” في المنطقة على العلاقة بين الجزائر وموسكو؟
ما الذي يحدث على حدود الجزائر الجنوبية؟
في شهر مايو/أيار 2021، أطاح الضابط الذي قاد الانقلاب في مالي في عام 2020، بالرئيس الانتقالي وعين نفسه نائبا للرئيس، وقال العقيد، أسيمي غويتا، إن الرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار عوين فشلا في أداء مهامهما، وكانا يريدان تخريب عملية التحول في البلاد.
واختار الحاكم العسكري الجديد في مالي مسارًا سياسيًا يعكس بوضوح الصراع الدولي على منطقة الساحل الأفريقي، ولم يكتف العسكريون بالتقرب من روسيا، وإنما قطعوا العلاقات مع باريس وطردوا قواتها التي كانت تشارك في “الحرب على الإرهاب” في الشمال المالي منذ عام 2013.
هذه الحرب المستمرة منذ سنوات بلغت ذروتها خلال هذا الصيف عندما صعّد الجيش المالي بمساعدة من قوات “فاغنر” الروسية هجماته على المتمردين في شمال البلاد، وسط مخاوف من حدوث أزمة إنسانية في ظل تقارير عن عشرات الضحايا المدنيين.
في حدث غير عادي في أقصى شمال مالي وعلى بعد كيلومترات قليلة من الحدود مع الجزائر، بثت مختلف وكالات الأنباء العالمية، الأحد 28 يوليو/تموز 2024، خبر مقتل وإصابة العشرات من مقاتلي قوات فاغنر في مالي، خلال مواجهات مع متمردي الطوارق.
وقال متمردو الطوارق في شمال مالي إنهم قتلوا وأصابوا العشرات من الجنود والمقاتلين التابعين لمجموعة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة خلال قتال استمر يومين بالقرب من الحدود الجزائرية، وذلك بعد أن قال الجيش المالي إنه فقد جنديين وإن قواته قتلت نحو 20 متمردًا.
حركة “الإطار الاستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية” المتمردة أوضحت في بيان السبت 27 يوليو/تموز 2024، أنها استولت على مركبات مدرعة وشاحنات وصهاريج خلال القتال الذي دار في بلدة تين زاوتين الحدودية مع الجزائر.
وقالت الجماعة المتمردة إنها خلال معارك يومي الخميس والجمعة 25 و26 يوليو/تموز 2024، نجحت أيضًا في إصابة طائرة هليكوبتر، والتي تحطمت في مدينة كيدال على بعد مئات الكيلومترات، وفق ما نقلته وكالة “رويترز” للأنباء.
بينما قال الجيش المالي في بيانات إن جنديين قتلا وأصيب 10 آخرون، وأضاف أن إحدى طائراته الهليكوبتر تحطمت في كيدال يوم الجمعة 26 يوليو/تموز 2024، أثناء مهمة روتينية لكن “لم يسقط قتلى” وفق ما صرح به الجيش المالي.
استمرت المواجهات بشكل متقطع إلى أن أعلن متمردو الطوارق الأحد 25 أغسطس/آب 2024، مقتل 15 شخصًا على الأقل، بينهم أطفال، في هجمات بطائرات مسيّرة على بلدة تين زاوتين، قرب الموقع الذي تعرض فيه الجيش لضربة قوية الشهر الماضي.
وقال متحدث باسم تحالف للمتمردين يحمل اسم الإطار الاستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية إن بلدة تين زاوتين الواقعة بالقرب من الحدود الجزائرية تعرضت لهجوم بطائرة مسيرة مرة أخرى يوم الأحد.
كما قال محمد المولود رمضان إن الضربات أصابت منزلاً مدنيًا وصيدلية وأجزاء أخرى من المدينة. وأضاف أنه تم التأكد من مقتل نحو 15 شخصًا، بينهم أطفال، ومن المرجح أن يرتفع عدد القتلى.
هذه التطورات كانت سببًا في مواجهة “غير مسبوقة” بين الجزائر ومالي في أروقة الأمم المتحدة.
مواجهة “غير مسبوقة” بين الجزائر ومالي
وقعت ملاسنة بين ممثلي الجزائر ومالي في جلسة نقاش بمناسبة الذكرى الـ
75
لاتفاقيات جنيف حول النزاعات المسلحة، نظمت بجنيف نهاية شهر أغسطس/آب
2024
.
إذ دافع ممثل الجزائر الدائم بمكتب الأمم المتحدة بجنيف، رشيد بلادهان، عن موقف زميله السفير بنيويورك، عمار بن جامع، حينما طالب قبل أسبوع من ذلك من مجلس الأمن بإصدار عقوبات ضد باماكو بعد الهجوم على تين زاوتين.
رد سفير مالي يومها، عيسى كونوفورو، على عمار بن جامع بأن جيش بلاده “استهدف سيارات تابعة لإرهابيين، كانت تنقل شحنة سلاح”، في إشارة إلى مسلحين معارضين طوارق، وأكد أن جيش بلاده: “لم يستعمل في هجومه مسيّرات، بعكس ما يقوله ممثل الجزائر”.
وقال السفير الجزائري بلادهان إن تصريحات بن جامع: “تهدف إلى تسليط الضوء على دور الجزائر تجاه جيرانها وأشقائها في مالي، فلم يكن أبدًا لها أي نية لإلحاق ضرر بدولة مالي، وشدد على “ضرورة التمييز بين الأعمال الإرهابية وأعمال المقاومة المشروعة
وأضاف الدبلوماسي الجزائري: “كان التصريح واضحًا للغاية (كلام السفير بن جامع)، فقد ركز على أنه لا أحد يجب أن يشك في التعريف الدولي للإرهاب… والجزائر لديها تجربة في مكافحة الإرهاب، ولم تشجع هذه الآفة تحت أي ظرف”.
وتابع بلادهان: “أود أن أشير إلى أن الجزائر دائمًا ما كانت تبحث عما يحفظ مصالح مالي وشعبها… نحن لا نتدخل في عملية اتخاذ القرار في مالي، ولا في الخيارات التي يتخذها جيراننا الأعزاء في هذا البلد”.
فيما كان السفير الجزائري في نيويورك، بن جامع، عبّر عن قلق بلاده مما وصفه بـ”انتشار الجيوش الخاصة في المنطقة“، في إشارة إلى مجموعات “فاغنر” الروسية المتحالفة مع المجلس العسكري في باماكو ضد المتمردين الطوارق في شمال البلاد.
السفير المالي رد على نظيره الجزائري بنبرة اتهام، ونفى وقوع ضحايا مدنيين في العملية التي شنها الجيش في منطقة تين زاوتين، واتهم الدبلوماسي الجزائري بـ”نقل معلومات صحافية خاطئة والترويج لدعاية الإرهابيين”.
كيف انقلبت العلاقة بين الجزائر ومالي؟
التوجه الجديد لحكام مالي انعكس أيضًا على علاقتهم بجارتهم الشمالية الجزائر، والذي عبر عنه الرئيس عبد المجيد تبون صراحةً برفضه لتواجد قوات أجنبية في مالي، في إشارة إلى مرتزقة “فاغنر” الروس الذين يمثلون مصالح موسكو في المنطقة.
في نهاية عام 2022 قرر الحكام الجدد في مالي الانسحاب من اتفاق السلام الذي وقعته باماكو والجماعات المتمردة في الشمال عام 2015 برعاية من الجزائر، واتهم المجلس العسكري الحاكم في مالي الجزائر بـ”التدخل في شؤونها”.
وزاد من توتر العلاقات بين الجزائر ومالي استقبال الرئيس عبد المجيد تبون للإمام المالي المعارض، محمد ديكو، وهو الاستقبال الذي اعتبره الحكام الجدد في مالي “تهديدًا خطيرًا يمس بسيادتها، وتدخلًا في شؤونها الداخلية”.
بينما رأت الجزائر أن استقبال الإمام محمد ديكو يدخل في صلب مهامها كوسيط بين الفرقاء الماليين وراعية لاتفاق السلم والمصالحة في مالي الذي وقعه حكام مالي السابقون مع المتمردين الطوارق تحت إشراف الجزائر عام 2015.
قبل ذلك، أدت اجتماعات في الجزائر شاركت فيها قيادات من الطوارق الماليين، إلى تبادل البلدين استدعاء سفيريهما للاحتجاج.
مالي اتخذت الخطوة أولًا واستدعت السفير الجزائري يوم 20 ديسمبر/كانون الثاني 2023، للتنديد بالاجتماعات التي “تعقد على أعلى مستوى دون علم السلطات المالية”، و”يشارك فيها أشخاص معادون للحكومة، وحركات اختارت المعسكر الإرهابي”.
فيما انتقدت الجزائر تمسك سلطات مالي بـ”الخيار العسكري”، وقالت إنه “التهديد الأول لوحدة الأراضي المالية”، وأنه يحمل بين طياته “بذور حرب أهلية، ويهدد السلم والاستقرار الإقليميين”، وفق ما جاء في بيان لوزارة الخارجية الجزائرية.
ما الذي تخشاه الجزائر؟
التصعيد بين الجزائر ومالي لم يقتصر على الجانب الدبلوماسي، إذ نشرت صحيفة “
Lopinion
” الفرنسية، الإثنين 2 سبتمبر/أيلول 2024، تقريرًا عن الأزمة بين الجزائر ومالي عنونته بـ”الجيش الجزائري يتحول إلى الردع العسكري ضد المجلس العسكري المالي”.
الصحيفة أوضحت أنه في 27 أغسطس/آب الماضي، أقلعت طائرة مقاتلة من طراز “سوخوي 30” تابعة للجيش الجزائري، من قاعدة تمنراست في أقصى جنوب البلاد، بعد رصد تهديد على الحدود مع مالي.
وقامت هذه الطائرة، بإطلاق إشارات تحذير تجاه طائرة بدون طيار تركية من طراز TB2 كانت تحلق في المنطقة، مما أجبرها على الانسحاب، وفق ما ذكرته الصحيفة الفرنسية.
لم تؤكد باماكو الحادث، لكن الجزائر باتت تعتبر وجود طائرات سوخوي قرب الحدود جزءًا من استراتيجيتها لمواجهة أي تصعيد، وفق مصادر “Lopinion”، في ظل التواجد المستمر للقوات الأجنبية الخاصة على القرب من الحدود الجنوبية للجزائر.
أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جنيف، الدكتور حسني عبيدي، قال في تصريح لقناة “فرانس 24″، إن تواجد مرتزقة فاغنر في مالي يعتبر “معضلة كبيرة للجزائر، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن روسيا تعتبر المزود الأساسي للجزائر بالسلاح”.
كما أكد عبيدي أن المجموعة غير نظامية غير قابلة للمساءلة، ودخول قوى أجنبية في المنطقة يشكل تهديدًا أمنيًا للجزائر، مشيرًا إلى أن الجزائر قامت بإحاطة مجلس الأمن للحديث عن هذا الموضوع وتسعى لتدويل قضية الأزواد في مالي.
كما أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون سبق وأن انتقد استعانة حكام مالي بقوات أجنبية، وقال: “إن الأموال التي تدفعها دولة مالي لمرتزقة فاغنر ستفيد أكثر إذا استثمرت في التنمية”.
وأعرب تبون في مقابلة مع صحيفة “Le Figaro” الفرنسية، شهر ديسمبر/كانون الأول 2022، عن قلقه من حقيقة أن منطقة الساحل تغرق في البؤس، مشيرًا إلى أن الحل هناك اقتصادي أكثر من كونه أمنيًا.
تحالف جديد على حدود الجزائر
إذ كشفت “إذاعة فرنسا الدولية”، أن وفدًا من المعارضين للسلطة الحالية في النيجر، التقى في شمال مالي بوفد من ممثلي الأزواد التي تتصدى للسلطة في مالي.
وتم اللقاء بمدينة تين زاوتين الحدودية مع الجزائر، وناقش الطرفان خلال اللقاء، إمكانيات تعزيز العلاقات بينهما دون التوقيع على أية وثيقة متعلقة بهذا الأمر.
ونقلت “إذاعة فرنسا الدولية” عن الناطق الرسمي باسم تحالف أزواد مالي، محمد المولود رمضان، أنه تم الاتفاق على تبادلات مثمرة ومفيدة للطرفين، وقال إن الطرفين قررا عقد اجتماعات أخرى “من أجل القتال يدًا بيد ضد جيشي مالي والنيجر”.