على وقع المعركة الانتخابية الدائرة في الولايات المتحدة بين الجمهوريين والديمقراطيين، لازال مصطلح يتردد بين الحين والآخر يغازل الناخب الأمريكي وهو “استقلال الطاقة” الذي يتصدر أجندة المرشح الجمهوري دونالد ترامب، ونائبة الرئيس ومرشحة الحزب الديمقراطي كاملا هاريس.
فقبل أيام صرح ترامب، في تجمع انتخابي أن الولايات المتحدة كانت مستقلة في مجال الطاقة قبل ثلاث سنوات خلال إدارته. كما دعا “جي دي فانس” في أول خطاب رئيسي له كنائب لترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية إلى تحقيق استقلالية أمريكا في مجال الطاقة، وذلك من خلال تكثيف إنتاج الطاقة المحلية مثل النفط والغاز الطبيعي داخل البلاد باستخدام العمالة الأمريكية.
على الجانب الآخر استخدم الرئيس الأمريكي جو بايدن مصطلح “استقلالية الطاقة” في أكثر من مناسبة، وأعلنت حملته الانتخابية أن الولايات المتحدة أقرب إلى الاستقلال في مجال الطاقة في عهد بايدن مما كانت عليه منذ عقود.
منصة أسباب المعنية بالتحليل الجيوسياسي نشرت في تقرير لها إمكانية تحقيق ما يعرف باستقلال الطاقة من كلا الحزبين.
“استقلالية الطاقة”.. شعار سياسي أم حقيقة في معركة الانتخابات الأمريكية؟
وبحسب أسباب تعني استقلالية الطاقة أن الدولة تتمكن الاعتماد فقط على الطاقة المنتجة محليًا. وظل هدف تحقيق استقلالية الطاقة ضمن الأهداف الرئيسية للإدارات الأمريكية المختلفة منذ الحظر العربي للنفط في عام 1973.
ومع بداية الألفية الثانية استخدم الساسة الأمريكيون مصطلح “استقلالية الطاقة” بكثافة وذلك بعدما استطاعت أمريكا استحداث تقنيات جديدة لاستخراج النفط والغاز والتي تسببت في طفرة هائلة في إنتاج الوقود الأحفوري وعرفت بثورة النفط الصخري.
وواصلت الإدارات الأمريكية المختلفة جهودها لتحقيق استقلالية الطاقة، وفي عهد الرئيس جورج دبليو بوش وقع على قانون استقلال الطاقة والأمن، والذي وضع خطة للحد من اعتماد أمريكا على النفط الأجنبي. وكذلك في عهد باراك أوباما تم رفع الحظر على صادرات النفط مما ساهم في تشجيع الشركات الأمريكية على تطوير صناعة النفط في البلاد. كما جعل ترامب من أولوياته زيادة إنتاج الطاقة المحلية وقام بتسهيل عملية تأجير الأراضي لشركات النفط والغاز الطبيعي.
ساهمت كل هذه العوامل في إحداث تحول لافت في إنتاج النفط والغاز في الولايات المتحدة، واستطاعت أمريكا في عام 2019 ولأول مرة منذ 6 عقود أن تحقق فائضا من النفط بعد أن تخطى إنتاجها ما تستهلكه على أساس سنوي. كما احتلت أمريكا صدارة الدول المنتجة للنفط وبلغ إنتاج النفط في البلاد حوالي 19.3 مليون برميل يومياً في عام 2023، ويمثل هذا الرقم خمس الإنتاج العالمي، وكذلك تحولت أمريكا إلى مُصدر رئيسي للنفط.وفي الوقت نفسه أصبحت الولايات المتحدة أكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم، إذ وصل إنتاجها إلى ما يزيد عن تريليون متر مكعب في عام 2023، وتجاوزت كل من قطر وأستراليا لتصبح أكبر مُصدر للغاز الطبيعي المسال (LNG) في العالم.
لماذا تستورد أمريكا النفط رغم اكتفائها الذاتي؟
وبالرغم من هذا الإنتاج الأمريكي الضخم من النفط والذي يمكن أن يُساهم إلى حد كبير في سد احتياجات السوق المحلية، لا تزال الولايات المتحدة تستورد كميات كبيرة من النفط الأجنبي. ويرجع ذلك إلى سبب جوهري، إذ إن معظم مُصاف التكرير الأمريكية مُصممة للتعامل مع أنواع أقل جودة من النفط الخام، وتحديدًا تعالج هذه المصافي النفط الخام الثقيل الموجود عادة في روسيا والشرق الأوسط ولا يمكنها معالجة النفط الأمريكي الخفيف عالي الجودة.
كما أن جغرافيا الولايات المتحدة المتسعة تلعب دورًا في هذا السياق، إذ تعتمد مُصاف التكرير الموجودة على الساحل الغربي الأمريكي بشكل كبير على واردات النفط من الخارج وذلك لأن تكاليف نقل النفط من المنتجين الأمريكيين وسط البلاد مرتفعة، مما يجعل أسعار شراء النفط الأجنبي أقل من تكلفة النفط المحلي.
وفقا لواقع البنية التحتية الأمريكية لتكرير النفط، فإن الولايات المتحدة بالرغم من تحقيقها فائض في إنتاج النفط، ولكنها في الواقع تصدر جزءًا من النفط الخام للخارج وتستورد في الوقت نفسه نفطا خامًا أقل جودة لتكريره في المُصاف الأمريكية.
واستوردت الولايات المتحدة في عام 2023 حوالي 8.5 مليون برميل يوميًا من النفط، بينما بلغ الاستهلاك الأمريكي في نفس العام 19 مليون برميل يوميًا، وتؤكد تلك الأرقام أن أمريكا لا تزال تعتمد على النفط الأجنبي إلى حد كبير، كما أن واشنطن لم تحقق استقلالية الطاقة في السنوات السابقة وفق مزاعم الديمقراطيين والجمهوريين.
وإجمالًا، فإن السيناريو الذي تعتمد فيه الولايات المتحدة فقط على النفط الذي تنتجه من غير المرجح أن يحدث في أي وقت قريب؛ إذ إن تحول غالبية المُصاف الأمريكية إلى تكرير النفط الأمريكي الخفيف سيستتبع تراجع العائدات الاقتصادية للمنتجين فضلًا عن الإشكاليات التقنية الأخرى.
وبالرغم من اعتماد أمريكا المفرط على النفط الأجنبي، فقد سعت واشنطن في العقدين الأخيرين إلى تنويع مصادر النفط وتقليل الاعتماد على النفط الخليجي. وجاءت 20% من واردات النفط إلى أمريكا من دول الخليج العربي في عام 2007، بينما انخفضت هذه النسبة إلى 10% في عام 2023 (5% من المملكة العربية السعودية). وعلى العكس من ذلك، زادت أمريكا من واردات النفط من كندا والمكسيك إذ بلغت نسبة الواردات النفطية من البلدين إلى إجمالي الواردات الأمريكية حوالي 63% في عام 2023 بعد أن كانت 30% في عام 2007.
تسعى واشنطن في سياق تحقيق استقلالية الطاقة إلى تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري والتوجه نحو إنتاج الطاقة المتجددة، وخصص قانون بايدن للمناخ في عام 2022 – المعروف رسميًا باسم “قانون خفض التضخم” (Inflation Reduction Act) – مبلغًا قياسيًا يُقدر بـ 369 مليار دولار لتوسيع البنية التحتية للطاقة المتجددة في أمريكا بما يشمل استثمارات ضخمة في مشاريع الطاقة الشمسية والرياح وكذلك إنتاج الهيدروجين النظيف.
ولكن تواجه تلك الطموحات الأمريكية مجموعة من التحديات تجعل تحقيق إنتاج كبير من الطاقة المتجددة في أمريكا أمرًا بعيد المنال في الوقت الراهن، إذ لا تزال الطاقة المتجددة تحتاج إلى استثمارات ضخمة وتطوير لتقنيات التصنيع، كما أن ثمة عوائق يمكن أن تواجهها تلك الصناعة في حال فوز ترامب بالانتخابات الأمريكية المقبلة، إذ ترتكز سياسته للطاقة على زيادة الإنتاج من النفط والغاز وتقليل النفقات على الطاقة النظيفة التي لا يعترف بأهميتها وتأثيرها على التغير المناخي.