على مدار أكثر من أسبوع، لا تزال القوات الأوكرانية تسطير على مساحة كبيرة من الأراضي الروسية، بعد أن شنت في السادس من أغسطس 2024، هجوماً مفاجئاً، تمكنت من خلاله حتى اللحظة السيطرة على 28 منطقة، على مساحة 1000 كيلو متر، وأدى ذلك إلى نزوح نحو 200 ألف روسي من منازلهم.
يعتبر هذا الهجوم بمثابة أكبر توغل أجنبي في روسيا منذ الحرب العالمية الثانية، فقد شكل نقطة تحول في الحرب الروسية الأوكرانية، وفاجئ الكرملين، وبشكل خاص زعيمه فلاديمير بوتين بشكل كبير، ليطرح تساؤلاً كبيراً، كيف تمكنت أوكرنيا من الإعداد لمثل هذا الهجوم وحشد القوات دون انتباه الاستخبارات الروسية؟
أوكرانيا نقلت ألوية كبيرة لمنطقة الهجوم
لم يكن هذا الهجوم عملية استخباراتية محدودة، تتطلب عدد قليل من الجنود، بل عملية تحتاج لإعداد وحشد للقوات والآليات العسكرية، ونقلها من مكان إلى مكان.
تقول صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، أن خرائط ساحة المعركة التي جمعها محللون مستقلون، تُظهر أن جنودًا من الألوية التي قاتلت لفترة طويلة في شرق أوكرانيا قد انتقلوا بشكل سري إلى منطقة سومي الأوكرانية، عبر الحدود مباشرة من كورسك.
كما تقيد الصحيفة أنه تم رصد كتيبة طائرات بدون طيار من اللواء الميكانيكي الثاني والعشرين، بالقرب من الحدود في منتصف يوليو.
كما انتقلت قوات من اللواء 82 الروسي إلى منطقة الهجوم الجوي، وكذلك فعل جنود من اللواء 80 للمشاركة بالهجوم من الجو، حيث كان هذا اللواء في طليعة القتال في منطقة خاركيف هذا الربيع.
ونقلت الصحيفة الأمريكية عن نائب قائد أحد الألوية، المقدم أرتيم، الذي طلب عدم الكشف عن هويته إلا باسمه الأول ورتبته، تماشيا مع البروتوكول العسكري، قوله: “إن أوكرانيا نقلت أجزاء من الألوية إلى منطقة سومي تحت ذريعة التدريب والحصول على معدات جديدة”.
وحتى داخل الجيش، ظل غالبية الجنود في ضبابية حول مهمتهم، فقال تيخيي ـ الذي يعني “الهادئ” باللغة الأوكرانية ـ إن بعض الوحدات لم يتم إبلاغها بمهمتها إلا في اللحظة الأخيرة.
وقد دخلت الأسلحة الثقيلة إلى داخل الأراضي الروسية، وتكدس الجنود في المنازل، واختبأ الأوكرانيون على مرأى من الجميع. وقال أحد الضباط، الذي عرَّف نفسه بعلامة النداء “تيخيي”، إنه طُلب من الضباط تجنب ارتداء الزي العسكري عند دخول البلدات والمدن حتى لا يلفتوا الانتباه.
ونقل موقع BBC البريطاني عن أحد الجنود الأوكران المتواجدين في روسيا، أن العملية استغرقت أشهر من التخطيط، مضيفاً: “لقد نجح عنصر المفاجأة. فقد دخلنا بسهولة دون مقاومة تذكر”.
جنود روس لاحظوا التحركات
من الطبيعي أن يتم رصد مثل هذه التحركات الكبيرة للقوات، خاصة أننا نتحدث عن منطقة تشهد نشاط أمني كبير، فقد لاحظ عدد من الجنود الروس هذه التحركات وقدمواً تقريراً إلى القيادة العسكرية الروسية قبل نحو شهر من الهجوم جاء فيه أن “القوات تم رصدها وأن المعلومات الاستخباراتية أشارت إلى استعدادات لشن هجوم”، كما قال أندريه جوروليوف، وهو عضو بارز في البرلمان الروسي وضابط سابق رفيع المستوى في الجيش، بعد الهجوم.
وبحسب الصحيفة الأمريكية فقد جاء الرد من القيادة العسكرية بالقول: “لا داعي للذعر، وأن من هم في الأعلى يعرفون ذلك بشكل أفضل”.
ومع صباح يوم السابع من أغسطس، تقدمت مئات القوات الأوكرانية إلى الأمام، واخترقت نقاط التفتيش الحدودية الروسية، ونجحت في اختراق خطين دفاعيين. ولأن المنطقة لا تحتوي على عدد كبير من الألغام والعقبات العسكرية، تحركت الألوية الميكانيكية الأوكرانية بسرعة .
كيف يرى بوتين الهجوم؟
يشكل الهجوم ضربة كبيرة وغير متوقعة لروسيا، ففي اجتماع متلفز عقد يوم الاثنين، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتن لكبار مسؤوليه الأمنيين وحكام المناطق إن هجوم كييف هو محاولة لتحويل انتباه روسيا عن منطقة دونباس الشرقية في أوكرانيا وكسب النفوذ في محادثات السلام المستقبلية المحتملة.
وقال بوتن: “من الواضح أن العدو سيستمر في محاولة زعزعة استقرار الوضع في المنطقة الحدودية لمحاولة زعزعة استقرار الوضع السياسي الداخلي في بلدنا”.
وقد أشار بوتن في تعليقه الأخير إلى أن العمليات العسكرية تتماشى مع هدف أوكرانيا المتمثل في خلق اضطرابات داخلية داخل روسيا. وقد اعتبر بوتن هذه التوغلات بمثابة محاولات لتحويل الانتباه عن الخسائر التي تكبدتها القوات الروسية في أماكن أخرى.
ما هو الهدف من الهجوم الأوكراني؟
وفي حين أن العملية الأوكرانية تخضع لسرية تامة، وتظل أهدافها غير واضحة، فإن التقدم يجعل قوات كييف أقرب إلى خطوط الإمداد الرئيسية داخل روسيا والتي تدعم الهجوم الروسي المستمر في شرق أوكرانيا.
ومما لا شك فيه أن التوغل كان بمثابة دفعة معنوية كبيرة في وقت تكافح فيه كييف لاختراق التحصينات الروسية وتحقيق تقدم كبير في استعادة الأراضي المفقودة.
كما يخلق التوغل منطقة عازلة أكبر تحول، مؤقتاً على الأقل، الضربات الجوية الروسية والقصف المدفعي بعيداً عن المدن والأراضي الأوكرانية.
وتشير بعض التقديرات أن هدف أوكرانيا من العملية هو إجبار روسيا على سحب بعض قواتها من أوكرانيا لخوض المعارك في أراضيها وغيرها من المناطق الحدودية المعرضة للخطر، وهو الأمر الذي يبدو أنه بدأ يتحقق، فقد نشرت وزارة الدفاع الروسية صوراً لقاذفات سوخوي سو-34 وهي تضرب ما قالت إنها قوات أوكرانية في منطقة كورسك الحدودية، وقالت إنها صدت هجمات على قرى على بعد 26-28 كيلومترا من الحدود.
كما أكد المتحدث باسم الجيش الأوكراني دميتري ليخوفي، الثلاثاء 13 أغسطس/ آب 2024، أن موسكو نقلت بعض قواتها من منطقتي زابوريزهيا وخيرسون في جنوب أوكرانيا إلى كورسك،فيما قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يوم الاثنين: “لقد جلبت روسيا الحرب للآخرين، والآن تعود إلى الوطن”.
ونظراً لاحتمال تراجع الدعم الغربي لكييف في الأشهر المقبلة ــ وخاصة إذا أعادت الانتخابات الأميركية الرئيس السابق دونالد ترامب إلى السلطة ــ فإن الغارة على كورسك تمنح أوكرانيا قدراً أكبر قليلاً من النفوذ في أي محادثات سلام مستقبلية.
وكتب مارك تيمنيسكي، وهو زميل غير مقيم في المجلس الأطلسي: “مع تزايد حالة عدم اليقين بشأن المشهد السياسي في الغرب وزيادة الضغوط للدخول في مفاوضات سلام مع روسيا، قد تسعى أوكرانيا إلى فرض سيطرتها على الأراضي الروسية، التي ستستخدمها كورقة مساومة في مقابل الأراضي التي تحتلها روسيا الآن”.