على وقع فوضى جيوسياسية حول العالم٬ أصيبت الأسواق العالمية بالانهيار يوم “الإثنين الأسود” 5 أغسطس/آب 2024 في واحد من أسوأ أيام التداول في الذاكرة الحديثة٬ حيث ساعدت المخاوف من تباطؤ الاقتصاد الأمريكي في دفع أسواق الأسهم في آسيا وأوروبا والولايات المتحدة نحو السقوط.
في الوقت نفسه، تدفقت الأموال إلى الملاذات الآمنة مثل سندات الحكومة الأمريكية والألمانية، في إشارة إلى الذعر الذي يسيطر على المستثمرين الذين يتطلعون إلى تجنب التداعيات المالية الناجمة عن السقوط المفاجئ للأسواق في هذا الصيف.
“حمام دم”.. ما الذي يحدث للأسواق العالمية؟
منذ مطلع شهر أغسطس/آب شهدت البورصات العالمية انهيار حاداً هو الأكبر منذ جائحة كورونا٬ فيما تعرضت تعرضت البورصة الأمريكية لخسائر مرعبة، حيث اكتست الأسواق باللون الأحمر وتراجعت أغلب مؤشرات البورصة الأمريكية وهبوط مؤشرات الدولار والنفط وحدوث تعافي في العقود الآجلة للذهب.
وأظهرات بيانات أن معدل البطالة في الولايات المتحدة قفز إلى أعلى مستوى في ثلاث سنوات عند 4.3% في يوليو/تموز وسط تباطؤ كبير في عمليات التوظيف، ما زاد المخاوف من تدهور سوق العمل واحتمال تعرض الاقتصاد للركود.
ويقول روبن بروكس، وهو الباحث في الاقتصاد العالمي والتنمية في مؤسسة بروكينجز، لمجلة foreign policy الأمريكية إن “الأسواق العالمية الآن تشبه الطفل الصغير، الذي يصاب بنوبة غضب واحدة يصعب السيطرة عليها. فالأمور الآن إما أن تكون إما سوداء أو بيضاء؛ ولكنها لا تكون رمادية أبداً”.
وتصف المجلة الأمريكية ما يحدث الآن للأسواق العالمية بـ”حمام الدم” هذا، حيث أن الأزمة تمحو مليارات إن لم يكن تريليونات الدولارات من الثروة الورقية٬ وهو إفقار مفاجئ سيتسرب إلى معنويات المستهلكين٬ والمصانع، وقطاع البناء والمساكن، وسيؤثر على خلق فرص العمل، وهي الأجزاء الأساسية من الرخاء الاقتصادي الأمريكي والعالمي.
كيف يزيد انهيار الأسواق العالمية المفاجئ من الفوضى الجيوسياسية؟
تقول المجلة إن الأسوأ من ذلك أن هذا الهيجان المالي٬ يحدث في وقت من عدم الاضطراب الجيوسياسي الشديد، مع حربين كبيرتين في أوروبا بين روسيا وأوكرانيا٬ والشرق الأوسط بين إسرائيل المدعومة من واشنطن من جهة٬ والمقاومة الفلسطينية وحزب الله وإيران من جهة أخرى.
بالإضافة إلى الفوضى المتصاعدة في جنوب آسيا حيث انهارت حكومة الشيخة حسية في بنغلاديش٬ بالإضافة أعمال الشغب المرعبة في شوارع بريطانيا، ومشهد أوروبا المنقسمة أمام روسيا، وكذلك الصين التي تتربص لجيرانها وتسعى لضم تايوان٬ والأمر الآخر المهم هو أن الانتخابات الرئاسية الأميركية المحورية لم يتبق لها سوى ثلاثة أشهر.
ولكن ما الذي حدث للتو في ظل هذه الاضطرابات التي تهز العالم؟ سقط تقرير البطالة الأكثر كآبة من المتوقع من السماء على الأسواق في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي، والذي كان بمثابة إشارة إلى تباطؤ الاقتصاد الأمريكي المتوقع٬ بعد سنوات من النمو الهائل.
وكان بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، البنك المركزي الأكثر أهمية في العالم، بطيئاً في النهوض من على الأريكة أمام سقوط هذه القنبلة المدوية، حتى أنه حافظ على أسعار الفائدة مرتفعة إلى حد معقول في الأسبوع الماضي. والآن أصبح البنك تحت ضغط شديد يدفعه إلى الإسراع بخفض أسعار الفائدة بسرعة وبكميات كبيرة إلى حد ما٬ حتى يتمكن من اللحاق بعاصفة تلوح في الأفق وتحمل غيوم سوداء حقيقية.
ولكن تقرير البطالة والتوظيف المخيب للآمال لم يكن الخبر الكئيب الوحيد: فقد أشار الكتاب الصادر عن بنك الاحتياطي الفيدرالي في يوليو/تموز، إلى بعض النقاط السيئة المحتملة مثل القروض الاستهلاكية أو مبيعات السيارات الجديدة. كما جاءت أنباء سيئة أخرى٬ خصيصاً الهبوط الحاد لقطاع التكنولوجيا المحموم، مع أرقام أرباح كئيبة من شركات عملاقة مثل إنتل وهروب أموال كبيرة من شركة أبل. وكانت النتيجة بيع الأسهم، وخاصة في قطاع التكنولوجيا، التي كانت تتداول بتقييمات مرتفعة تاريخياً والتي طال انتظارها للتصحيح.
“مذبحة الأسواق” 2024 بين الأزمة المالية 2008 و 1987
وبحسب فورين بوليسي٬ فإن مذبحة الأسواق التي تجري الآن تشبه إلى حد ما ما حدث في عام 2008، حيث قد تساعد في تحديد المرحلة النهائية من الانتخابات الأمريكية التي تشهد منافسة شديدة بين هاريس وترامب. وأشرف الرئيس الأمريكي جو بايدن على نمو قوي، وانخفاض معدلات البطالة، وارتفاع سوق الأوراق المالية، لكن أمريكا ظلت تعاني خلال عهده طوال الوقت من التضخم.
إن التصحيح الكبير في السوق، والذي يرجع جزئياً إلى المخاوف من أن الاقتصاد الأميركي بدأ يفقد قوته أخيراً، ليس خبراً ساراً بالنسبة للديمقراطيين الذين يأملون في حشد الناخبين لمرشح جديد مثل هاريس. وهذا صحيح بشكل خاص عندما يستغل المرشح الجمهوري دونالد ترامب البيانات الاقتصادية القاتمة وخاصة التصحيح في السوق، والذي قد يكون كافياً لإعادة تضخيم حملته الانتخابية٬ كما يقول جاري هوفباور، الخبير الاقتصادي والتجاري في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي.
وقال لمجلة فورين بوليسي: “إن انهيار السوق قد يدفع ترامب إلى الصعود في الولايات المتأرجحة، وهو ما سيكون بمثابة أخبار سيئة للسوق والاقتصاد على المدى الطويل، بالنظر إلى سياساته التجارية والاقتصادية المضطربة”.
وبعيداً عن الذعر الذي أصاب الأسواق، هناك فروق كبيرة أخرى بين ما يحدث الآ وبين الأزمة المالية العالمية في عام 2008 فقد كانت الأزمة حينها شديدة السميّة لأن الانحدار العالمي إلى ديون الرهن العقاري الثانوي وكل مشتقاتها ترك البنوك وشركات التأمين، تتحمل خسائر فادحة، فضلاً عن التأثيرات المتتالية كإعادة التأمين وما شابه ذلك، والتي من المؤكد أنها ستجعل الأزمة أسوأ. وهذه المرة لا تزال الأزمة قبيحة، ولكنها مختلفة وأقل تهديداً.
هل يتكرر سيناريو أزمة انهيار الأسواق في 1987؟
من جهتها٬ تقول صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية إن الأمثلة المشابهة السابقة الناجمة عن هبوط الأسواق الكبيرة هي انهيار الأسهم في عام 1987، والأزمة المالية العالمية في عام 2008. لكن حتى الآن ما يحدث في الأسواق أقرب إلى نسخة من أزمة عام 1987.
ففي 19 أكتوبر/تشرين الأول 1987، شهدت أسواق الأوراق المالية أكبر هبوط لها في يوم واحد على الإطلاق، والذي سمي بـ”الإثنين الأسود”٬ حيث انخفض مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” بأكثر من 20% من قيمته في يوم واحد٬ وتعرض أكبر 23 سوق مالي بالعالم لسقوط حاد جداً بالاسهم.
لكن بنك الاحتياطي الفيدرالي ضخ السيولة في البنوك، ولم يتخلف السماسرة عن سداد ديونهم، واستردت السوق كل خسائرها في غضون عامين٬ وكان الاقتصاد الأمريكي بخير.
كان الخبر السار حينها هو أن عام 1987 كان كله يدور حول الأسواق: فقد ارتفعت، ثم عادت إلى الانخفاض، فقد حقق مؤشر ستاندرد آند بورز 36% في الأشهر الثمانية حتى ذروته في أغسطس/آب 1987، وهو ما يشبه ارتفاعه بنسبة 33% في الأشهر الثمانية حتى نهاية يونيو/حزيران من هذا العام.
وكما حدث في عام 1987، جاءت مكاسب هذا العام على الرغم من السياسة النقدية المتشددة وارتفاع عائدات السندات. ومثله اليوم، كان المستثمرون في عام 1987 متوترين ومستعدين للبيع لتأمين الربح غير المتوقع. وكانت الخسائر أقل حتى الآن، لكن الصفقات المربحة انعكست، تماماً كما حدث للسوق ككل في عام 1987.
وفي عام 1998، كان الوضع أسوأ كثيراً، وإن كانت الأسهم تعافت بسرعة أكبر. فقد سحق صندوق التحوط عالي الاستدانة LTCM عندما تسبب تخلف روسيا عن سداد ديونها المحلية في هروبها إلى بر الأمان. وكان صندوق التحوط عالي الاستدانة كبيراً بما يكفي لتهديد مؤسسات وول ستريت بالانهيار.
لكن النتيجة السيئة حقاً ستكون تكرار ما حدث في عام 2008 الآن٬ ولكن يبدو أن هذا غير مرجح كما تقول “وول ستريت جورنال”٬ فصحيح أن بعض البنوك الأميركية الكبرى فشلت في العام الماضي، بسبب الرهانات السيئة على السندات الحكومية. ولكن البنوك أصبحت أقل اعتماداً على الاستدانة مما كانت عليه في السابق، والنظام أصبح أقل عُرضة لأزمة السيولة، حيث تحمل المقرضون من القطاع الخاص قدراً كبيراً من المخاطر التي كانت البنوك تتحملها في السابق. ومن الممكن تماماً أن تتكبد الصناديق الخاصة خسائر كبيرة، ولكن هذا سوف يستغرق وقتاً ولن يؤدي إلى خلق نفس الأزمة التي تضرب النظام بأكمله.