في حدث غير عادي في أقصى شمال مالي وعلى بعد كيلومترات قليلة من الحدود مع الجزائر، بثت مختلف وكالات الأنباء العالمية، الأحد 28 يوليو/تموز 2024، خبر مقتل وإصابة العشرات من مقاتلي قوات فاغنر في مالي، خلال مواجهات مع متمردي الطوارق.
إذ تسعى السلطات المالية منذ سنوات لاحتواء متمردي الطوارق في الشمال المضطرب منذ أكثر من عقد من الزمن، وتزعم السلطات العسكرية في العاصمة المالية باماكو أن هؤلاء المتمردين الطوارق “مرتبطون بتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية”.
من خلال هذا التقرير سنتطرق إلى تفاصيل “أكبر انتكاسة” تتعرض لها قوات فاغنر في مالي، وكيف وصلت تلك القوات إلى هناك؟ وما الذي يحدث بالضبط بالقرب من الحدود الجنوبية من الجزائر؟ وما موقف البلد المغاربي من الوضع في منطقة “أزواد”؟
ما الذي حدث خلال يومي القتال؟
قال متمردو الطوارق في شمال مالي إنهم قتلوا وأصابوا العشرات من الجنود والمقاتلين التابعين لمجموعة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة خلال قتال استمر يومين بالقرب من الحدود الجزائرية، وذلك بعد أن قال الجيش المالي إنه فقد جنديين وإن قواته قتلت نحو 20 متمردًا.
حركة “الإطار الاستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية” المتمردة أوضحت في بيان السبت 27 يوليو/تموز 2024، أنها استولت على مركبات مدرعة وشاحنات وصهاريج خلال القتال الذي دار في بلدة تين زاوتين الحدودية مع الجزائر.
وقالت الجماعة المتمردة إنها خلال معارك يومي الخميس والجمعة 25 و26 يوليو/تموز 2024، نجحت أيضًا في إصابة طائرة هليكوبتر، والتي تحطمت في مدينة كيدال على بعد مئات الكيلومترات، وفق ما نقلته وكالة “رويترز” للأنباء.
بينما قال الجيش المالي في بيانات إن جنديين قتلا وأصيب 10 آخرون، وأضاف أن إحدى طائراته الهليكوبتر تحطمت في كيدال يوم الجمعة 26 يوليو/تموز 2024، أثناء مهمة روتينية لكن “لم يسقط قتلى” وفق ما صرح به الجيش المالي.
فيما ذكر عدد من المدونين العسكريين الروس الأحد 28 يوليو/تموز 2024، أن 20 على الأقل من قوات فاغنر في مالي قُتلوا في كمين بالقرب من الحدود الجزائرية.
الحركة العربية الازوادية دمرت رتل كامل لمرتزقة فاغنر في شمال مالي، محرقة ومذبحة حرفيا لفاغنر
pic.twitter.com/pF9QxbtEoR— Qasem (@Qasemqt)
July 27, 2024
وقال المدون العسكري الروسي البارز سيميون بيجوف، الذي يستخدم اسم (وور جونزو)، إن “موظفين من مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة، الذين كانوا يتحركون في قافلة مع القوات الحكومية، قُتلوا في مالي… وتم أسر بعضهم”.
بينما قالت مجموعة “روسيتش”، وهي وحدة شبه عسكرية روسية جديدة مرتبطة بفاغنر، إن أكثر من 80 رجلًا قُتلوا في العملية وأن أكثر من 15 أُسروا. وجاء في رسالة نُشرت على قناة المجموعة: “أنا أتحدث عن مواطنينا الروس، العسكريين الذين يمثلون مصالح روسيا”.
في بيان آخر صدر الأحد 28 يوليو/تموز، قالت حركة “الإطار الاستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية” إنها خاضت قتالًا مع كتيبة من الجيش المالي مدعومة من قوات فاغنر في مالي وألحقت بها الهزيمة.
أضافت الحركة المتمردة أنها “قضت” على العدو وأن قلة من الجنود ومقاتلي فاغنر نجوا من القتال ووقعوا في الأسر. وتابعت أن سبعة من مقاتليها لقوا حتفهم وأصيب 12 آخرون.
ونقلت صحيفة “Wall Street Journal” الأمريكية عن مسؤول كبير في الاستخبارات الأميركية قوله: “إن المسؤولين الأميركيين يعتقدون أن الصور المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي لمقاتلي فاغنر القتلى في ساحة المعركة حقيقية”.
تواجد قوات فاغنر في مالي
بعد انقلابين عسكريين في عامي 2020 و2021، استأجر الحكام الجدد في مالي مجموعة من عناصر قوات فاغنر الروسية للعمل كحراس شخصيين لأعضاء المجلس العسكري الأعلى وإجراء مهام قتالية، وفق ما ذكرته تقارير غربية.
فيما أدى الوجود الروسي إلى إحداث شرخ بين مالي وشركائها العسكريين الغربيين التقليديين، وأدى إلى طرد قوات مكافحة الإرهاب الفرنسية التي عملت في مالي منذ سنوات، كما أنهى مهمة أمنية كانت تقودها الأمم المتحدة.
وتواجه مالي تمردًا من “جماعات إسلامية منذ سنوات”، وقال مسؤول الاستخبارات الأميركي لصحيفة “وول ستريت جورنال” إن المتمردين الطوارق “ربما كانوا يسعون إلى الانتقام لهجوم في نوفمبر/تشرين الثاني 2023”.
فقد استولت القوات المالية وقوات فاغنر الروسية مستعينة بطائرات بدون طيار على بلدة كيدال، معقل الطوارق. وكانت الحملة الحكومية في الخريف الماضي قد حطمت هدنة استمرت لسنوات مع المتمردين الطوارق في أقصى شمال البلاد.
بينما تنفي السلطات في باماكو أن تكون القوات الروسية الموجودة على أراضيها تابعة لمجموعة فاغنر وتقول “إنهم مدرِبون يساعدون القوات المحلية في استخدام المعدات المشتراة من روسيا”. وذكر تقرير قناة “بازا” أن مقاتلي فاغنر موجودون في مالي منذ عام 2021.
فقد سعت قوات فاغنر في مالي إلى الاستفادة من المشاعر المعادية لفرنسا المتجذرة في مناهضة الاستعمار وانتقادات دور فرنسا التاريخي في دعم الأنظمة الديكتاتورية، وفق ما ذكره مركز “Lowy Institute” البحثي في تقرير نشره في أغسطس/آب 2023.
وأدى الاستياء من النفوذ الاقتصادي الفرنسي في دول مثل النيجر ومالي إلى زيادة هذه المشاعر، والتي تفاقمت بسبب فشل التدخل الفرنسي في عملية برخان في مالي، مما خلق ظروفًا مواتية لمجموعة فاغنر لتوسيع نفوذها في المنطقة.
موقف الجزائر مما يحدث على حدودها الجنوبية
الطوارق جماعة عرقية تسكن منطقة الصحراء الكبرى، ومنها أجزاء من شمال مالي، ويشعر العديد منهم بالتهميش من جانب الحكومة، وشنت الجماعة الانفصالية تمردًا ضد حكومة المجلس العسكري في 2012، لكن جماعات إسلامية قادت هذا التمرد فيما بعد.
وأبرمت الجماعة اتفاق سلام مع باماكو في 2015 برعاية من الجزائر، لكن حركة الإطار الاستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية انسحبت من الاتفاق في نهاية 2022، واتهمت باماكو السلطات الجزائرية بـ”التدخل في شؤونها الداخلية”.
وقالت باماكو في بيان إنه يبدو أن هناك تصورًا خاطئًا لدى السلطات الجزائرية التي تنظر إلى مالي نظرة “ازدراء واستعلاء”.
وأشارت إلى أن الحكومة الانتقالية “يساورها الفضول لمعرفة كيف سيكون شعور السلطات الجزائرية لو استقبلت مالي، على أعلى مستوى في هرم الدولة، ممثلين عن حركة تقرير مصير منطقة القبائل”.
وتشترك الجزائر مع مالي حدودًا على طول 1359 كيلومترًا كلها عبارة عن صحراء قاحلة، لكنها مهمة سواء بالنسبة لروسيا أو للغرب، وقبلهما للجزائر التي ترى في أي تواجد لمقاتلين أجانب “تهديدًا غير مباشر لها”.
وسائل إعلام عربية قالت نقلًا عن مصادر قريبة من الحكومة الجزائرية إنها باتت منزعجة من التحالف الذي عقده الحاكم العسكري في باماكو العقيد عاصيمي غويتا، مع مرتزقة “فاغنر” الروسية”.
وجاء ذلك بعد أن استولت القوات المالية، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023 على مدينة كيدال، في هجوم سريع شنّته بمساعدة فنية ولوجيستية من الميليشيا، وكيدال هي أهم معاقل المعارضة المسلحة التي تطالب بإقامة دولة في الشمال.
ورأت الجزائر في هذه التطورات “خرقًا لاتفاق السلام” الموقع بين طرفي الصراع، على أرضها في 2015.
في بداية شهر مايو/أيار 2024، كشف وزير خارجية الجزائر أحمد عطاف، عن فتح بلاده رسميًّا ملف تواجد قوات فاغنر خلف حدودها الجنوبية في منطقة الساحل الأفريقي مع روسيا.
وأوضح المسؤول الجزائري، في لقاء مع ممثلي وسائل إعلام محلية، أنه ناقش الأمر شخصيًّا مع نظيره الروسي سيرغي لافروف.
كما أعلن المسؤول الحكومي الجزائري عن إنشاء آلية مشتركة، تضم دبلوماسيين وأمنيين، برئاسة الأمين العام لوزارة الخارجية، لوناس مقرمان، عن الجانب الجزائري، وميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية، والمبعوث الشخصي للرئيس فلاديمير بوتين، عن الطرف الروسي.
وأكد عطاف أنّ اللجنة الثنائية المكلفة بمتابعة تواجد قوات فاغنر في الإقليم ستجتمع مرة أخرى في المستقبل القريب.
بينما لم يصدر أي تعليق رسمي جزائري بشأن التطورات الأخيرة في مالي، قالت وسائل إعلام جزائرية مقربة من السلطات إن اشتعال القتال على منطقة الحدود الجنوبية “يطرح تحديات جديدة للجزائر التي استقبلت في الأشهر الأخيرة آلاف اللاجئين من الحرب”.
وأشارت صحيفة “الخبر” الجزائرية إلى ورود تقارير عن ارتكاب قوات الجيش المالي “فظائع في حق المدنيين العزل، امتدت في حالات إلى مخيمات اللاجئين في موريتانيا، حيث اعترض قبل أيام مرتزقة فاغنر سيارة مدنية موريتانية وقتل سائقها مع طفل كان يرافقه في عملية مطاردة”.