بعد الفوز الكاسح الذي حققه حزب العمال البريطاني الخميس 4 يوليو\ تموز 2024 – طبقًا لنتائج غير رسمية- في الانتخابات التشريعية البريطانية فيعتبر المحامي السابق كير ستارمر، زعيم “حزب العمال” البريطاني، المرشح الأول لتولي رئاسة الوزراء بعد 14 عامًا من سيطرة المحافظين على السلطة.
شكلت الانتخابات التشريعية التي جرت أمس منعطفًا جديدًا في تاريخ البلاد مع فوز “حزب العمال” وخروج المحافظين من السلطة بعد 14 عامًا في الحكم، وفق ما أظهرته نتائج جزئية.
نجح هذا الرجل في تغيير واجهة حزبه وتحويله من اليسار الواضح إلى يسار الوسط حتى يعيد الزخم لحزبه الذي فقد بريقه منذ عدة سنوات.
فقد تبنى المحامي الشهير العديد من القضايا التي قد تكون غريبة عن حزب العمال خاصة فيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي وقضايا العمل التي تراجع فيها عن موقف الحزب المعروف من الدعم المطلق إلى الدعم المشروط للعمال وأيضًا تبني خطاب داعم لرجال الأعمال وحتى غيَّر موقف حزبه من القضية الفلسطينية رغم حرصه على كسب أصوات الداعمين لحقوق الفلسطينيين.
ومنذ 2010، أثار تعاقب الأزمات -من الانقسامات الناجمة عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “بريكسيت” في ديسمبر/كانون الأول 2020، إلى إدارة جائحة كوفيد-19، فضلا عن ارتفاع الأسعار ومستويات الفقر العالية والنظام الصحي العام المتهالك والتغيير المستمر لرؤساء الحكومة- تطلعا كبيرا إلى التغيير، ما دفع المحافظين إلى الإقرار بأنهم لا يسعون للفوز وإنما فقط للحد من حدة فوز “العمال”.
شخصية غير نمطية في السياسة البريطانية
في ظل هذه الظروف، من المرجح أن يكلف الملك تشارلز الثالث الجمعة 5 يوليو\ تموز 2024 كير ستارمر، وهو محام سابق متخصص في مجال حقوق الإنسان ويبلغ من العمر 61 عامًا، تشكيل الحكومة الجديدة بعد أن أعاد حزبه إلى يسار الوسط وتعهد بإعادة “الجدية” إلى السلطة.
بشعره الرمادي الممشط جيدًا، وأسلوبه الصارم، ونبرته الهادئة، ومنهجيته الدائمة في العمل، يعتبر كير ستارمر شخصية غير نمطية في السياسة البريطانية.فبعيدا عن مغامرات بوريس جونسون وليز تروس، واليساري جيريمي كوربين، أو حتى اليميني المتطرف نايجل فراج، يبرز زعيم “حزب العمال” بقدرته على التقدم بخطى أكثر تمهلًا وحذرًا.
ورغم أنه سيخلف ريشي سوناك في رئاسة الوزراء، إلا أنه غير معروف جيدًا لدى عموم البريطانيين، ما يستغله منتقدوه لإظهاره على أنه شخص “متردد” و”مزعج” بعض الشيء. لكن، منذ 2020، أظهر المحامي السابق تصميمًا ثابتًا على إعادة ضبط مسار حزبه وكذا إرادة واضحة في تولي منصب رئيس الوزراء.
ورغم أنه سيخلف ريشي سوناك في رئاسة الوزراء، إلا أنه غير معروف جيدًا لدى عموم البريطانيين، ما يستغله منتقدوه لإظهاره على أنه شخص “متردد” و”مزعج” بعض الشيء. لكن، منذ 2020، أظهر المحامي السابق تصميمًا ثابتًا على إعادة ضبط مسار حزبه وكذا إرادة واضحة في تولي منصب رئيس الوزراء.
من اليسار إلى الوسط
تولى ستارمر قيادة “العمال” خلفًا للاشتراكي المخضرم جيريمي كوربين بعد أن تعرض الحزب في 2019 لأسوأ هزيمة له منذ 84
عامًا
، فأعاده إلى الوسط. ولم يتوان في تسليط الضوء على أصوله المتواضعة لإظهار مدى اختلافه عن نظرائه في المشهد السياسي.
أعدت نتائج تلك الانتخابات بمثابة الكارثة بالنسبة للحزب ــ فقد واجه أسوأ هزيمة منذ عام 1935 ــ الأمر الذي أجبر جيريمي كوربين على الاستقالة. وفاز السير كير بقيادة حزب العمال بأجندة يسارية ركزت على تأميم شركات خدمات الطاقة والمياه، وكفل تعليم جامعي مجاني.
وكان حزب العمال وقتها نتيجة إدارة جيريمي كوربين، يعاني انقسامًا داخليًا واضحًا بين جناحين، دعاة اليسار المتشدد أو الراديكالي ودعاة اليسار المعتدل.
وقال ستارمر إنه يريد توحيد الصفوف وتقريب التكتلين مع المحافظة على “راديكالية” السيد كوربين محذِّرًا من الميل الشديد أيضا نحو الوسط.
ثم أعقب ذلك أن قرر ستارمر تعليق عضوية جيريمي كوربين في حزب العمال بسبب الخلاف حول التقرير الخاص بالتصدي لمعاداة السامية داخل الحزب خلال فترة قيادة كوربين الحزبية.
ويزعم كثيرون من معسكر
اليسار المتشدد
أن ستارمر كان يجري إعادة ترتيب للبيت الداخلي طويلة النفس للتأكد من أن الأعضاء المعتدلين فقط هم من سيتمكنون الترشح للبرلمان، بحسب تقرير لموقع بي بي سي عربي.
فوالدته ممرضة مصابة بداء التهاب المفاصل ما يمنعها من التنقل، ووالده صانع أدوات. وهو ما يتناقض مع خصمه المحافظ ريشي سوناك، وهو مليونير وابن مهاجرين من أصل هندي قدموا إلى المملكة المتحدة واتبع مسارا نموذجيا للنخب البريطانية.
في المقابل، نشأ كير ستارمر بمنزل صغير في لندن، ولم يذهب إلى كلية خاصة وكان الأول من بين أربعة أطفال يلتحقون بالجامعة. أصبحت إحدى شقيقاته ممرضة، والأخرى متخصصة في البستنة. فيما كان شقيقه الذي تقاسم معه غرفة المنزل يعاني من صعوبات في التعلم. درس ستارمر القانون في جامعة ليدز قبل أن ينتقل إلى أكسفورد.
يقول المحامي السابق في فيديو نشره في حساب حزبه على فيس بوك: “كان والدي صانع أدوات ووالدتي ممرضة”، وهو يحرص على نشر هذه الرسالة بانتظام في خطاباته. وأطلق عليه والديه اسمه تكريما لمؤسس “حزب العمال” كير هاردي، حيث أن كلاهما أصلا من الناشطين العماليين المتحمسين.
من عباءة المحاماة إلى منصب المدعي العام ووسام “الفارس”
بعد حصوله على شهادة المحاماة، تخصص ستارمر في الدفاع عن حقوق الإنسان، ونشط لعدة سنوات في الدفاع عن النقابات ومكافحة عقوبة الإعدام. ومن ثمة، دافع عن المحكوم عليهم بالإعدام في جزر الكاريبي
وكذلك
المعركة ضد ماكدونالدز في قضية وضعت عملاق الوجبات السريعة الأمريكي بمواجهة المدافعين عن البيئة.
كما عمل على اتخاذ إجراءات قانونية ضد انتهاكات حقوق الإنسان خلال الصراع في إيرلندا الشمالية (1968-1998). وساهم مطلع 2000 في إنشاء قوة شرطة جديدة لحفظ السلام.
في 2008، أحدث المفاجأة حين اتخذ أول منعطف في مساره المهني، حيث أصبح
مدعيًا
عاما لإنجلترا وويلز. وأشرف من خلال هذا المنصب على ملاحقات قضائية طالت نوابا متهمين بالاختلاس وحتى صحافيين متهمين بالتنصت على الهواتف.
ورغم أن معاركه ومواقفه تلك أدت إلى استهدافه بانتظام من قبل اليمين، والذي يتهمه بالدفاع عن “القتلة”، فقد حاز على وسام “الفارس” في 2014 من الملكة إليزابيث الثانية تكريما لمسيرته القانونية الطويلة.
يقول عنه تيبو هارويس الأستاذ المحاضر في الحضارة البريطانية المعاصرة بجامعة السوربون-الجديدة بباريس: “رغم أنه ينحدر من الطبقة العاملة، فإن تكرار تلك المسألة بانتظام يسمح له بالتذكير بأنه أصلا ليس محترفا في عالم السياسة وأن لديه مسيرة مهنية طويلة”. مضيفا: “يستطيع بهذه الطريقة أن ينشر صورة ذلك الرجل الموجود قبل كل شيء لخدمة وطنه، بعيدا عن الطموحات المهنية”.
يتابع هارويس في هذا الصدد: “خلافا لتوني بلير مثلا، فإن كير ستارمر يعي جيدا بأنه لا يتمتع بشخصية كاريزمية. ومن خلال التركيز على حياته المهنية، فهو يريد قبل كل شيء الترويج لصورة الرجل الجاد والمباشر والمنهجي”. وهو ما يرى فيه الخبير ميزة لصالح ستارمر، “بعد سنوات شهدت فضائح سياسية” عدة في بريطانيا.
“حان وقت التغيير”
لتفادي هجمات اليمين وتبديد وقع برنامج سلفه جيريمي كوربن الباهظ
التكلفة
، تعهد ستارمر بقيادة إدارة صارمة للغاية للإنفاق العام، من دون زيادة الضرائب. وهو يعوّل في هذا الإطار على استعادة الاستقرار والتدخلات من الدولة واستثمارات في البنية التحتية لإنعاش النمو، ما من شأنه تصحيح وضع المرافق العامة التي تراجع أداؤها منذ إجراءات
التقشف
في أوائل 2010.
كما يريد أن يظهر حازما في قضايا الهجرة وأن يقترب من الاتحاد الأوروبي، لكن بدون الانضمام إليه، محذرا في المقابل من أنه لا يملك “عصا سحرية” – الأمر الذي ظهر أيضا لدى البريطانيين الذين أظهرت استطلاعات الرأي أن لا أوهام لديهم بشأن آفاق التغيير.
ومع أن حذره دفع البعض إلى القول بإنه قليل الطموح، إلا أنه سمح لـ “حزب العمال” بالحصول على دعم في أوساط الأعمال وفي الصحافة اليمينية.
فبعد صحيفة “فاينانشل تايمز” ومجلة “ذي إيكونوميست”، دعت “ذي صن” الأربعاء إلى التصويت لصالح “العمال”. وقالت الصحيفة الشعبية التي يملكها رجل الأعمال روبرت مردوك (الذي كان دعمه للحزب في 1997 حاسما لفوز توني بلير): “حان وقت التغيير”.
وقامت حملته حول وعد من كلمة واحدة هي “التغيير”، مستغلا الغضب من حالة الخدمات العامة المنهكة وانخفاض مستويات المعيشة. لكن لن يكون في يده إلا القليل من الأدوات التي يمكنه استخدامها، لأنه من المتوقع أن يبلغ العبء الضريبي أعلى مستوى منذ 1949، وأن يعادل صافي الدين تقريبا الناتج الاقتصادي السنوي.
في هذا السياق، حذر ستارمر من أنه لن يستطيع إصلاح أي شيء بسرعة، ويسعى حزبه لخطب ود مستثمرين دوليين للمساعدة في مواجهة التحديات.
يوضح تيبو هارويس أيضا أنه ومن الناحية السياسية، فإن ستارمر يتخذ موقفا “لصالح التدخل الاقتصادي والسياسات الاجتماعية مع الحفاظ على ثباته فيما يتعلق بالهجرة والأمن، إلا أنه يبقى دائما منضبطا ويرفض تقديم وعود كبيرة ويذكرنا باستمرار بأن خزائن الدولة فارغة”. رغم ذلك، فإن من التدابير الرئيسية التي يروج لها ستارمر هو
تركيز
الاستثمار واسع النطاق مع أكثر من 32 مليار يورو سنويا في الطاقة المتجددة.
ويختم تيبو هارويس قائلا إنه وفي ظل المشهد السياسي الحالي في بريطانيا “نجح ستارمر في ترسيخ نفسه كبديل جدي”. وهو موقف يوضحه شعار حملته الانتخابية الذي كان يردده في كل فرصة: “حان وقت التغيير”.
ماذا عن فلسطين؟
أما فيما يخص القضية الفلسطينية، لم تكن تصريحاته واضحة كما كان في السابق مثلما فعل سابقيه مثل
جيريمي
كوربن.
ففي خطابه قبل الانتخابات، حاول ستارمر إصلاح ما يمكن إصلاحه في علاقة الحزب مع الكتلة الناخبة الغاضبة من موقف الحزب من الحرب على قطاع غزة، ومن الدعم الذي أظهرته قيادة الحزب لإسرائيل وجرائمها في حق أهالي القطاع، وذلك من خلال التنصيص في البرنامج الانتخابي للحزب بشأن الاعتراف بدولة فلسطين.
وبقراءة الفقرة الخاصة بموقف الحزب من القضية الفلسطينية، يظهر أن هناك تلاعبًا بالكلمات في محاولة لإرضاء أنصار فلسطين، وفي الوقت نفسه عدم إغضاب اللوبي الإسرائيلي في بريطانيا، مما جعل ردود الفعل متباينة حول التزام حزب العمال بالاعتراف بفلسطين.
جاء في برنامج حزب العمال أن الاعتراف بالدولة هو حق لا محيد عنه بالنسبة للفلسطينيين، وأن الحزب يتعهد بالاعتراف بدولة فلسطين بالتنسيق مع الشركاء الدوليين، وذلك خلال مسار مفاوضات يؤدي إلى حل الدولتين وإحلال السلام، إضافة إلى السعي لإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة وإطلاق سراح المحتجزين والعمل على وقف إطلاق النار.
هذا الالتزام يعتبر حسب مراقبين، تراجعًا عن الالتزام الذي سبق لحزب العمال أن أقره في عهد زعيمه السابق جيريمي كوربن، إذ وعد بالاعتراف الفوري بدولة فلسطين في حال فوز العمال في انتخابات عام 2019، بحسب تقرير لموقع الجزيرة نت.