كشف مصدر حكومي مصري، شارك في المفاوضات السابقة مع إثيوبيا، عن أن أديس أبابا رفضت كافة الاقتراحات التي تقدمت بها مصر بشأن التعرف على نواياها بشأن كمية المياه التي تنوي تخزينها خلال الملء الخامس لسد النهضة، من بينها رفض استقبال مراقبين مصريين لمتابعة العملية.
وقال المصدر لـ”عربي بوست”، طالباً عَدَمَ الكشف عن اسمه، إن الحكومة المصرية أرادت إرسال المراقبين إلى إثيوبيا لتحديد الكميات التي يمكن ضخها من السد العالي، لجعل مصر أكثر قدرة على التعامل مع نقص المياه المرتقب، غير أن الجانب الإثيوبي رفض جميع المطالب المصرية، معتبراً ذلك “تدخلاً في شؤونه الداخلية”.
من بين المطالب المصرية أيضاً، بحسب المصدر ذاته، أن القاهرة عرضت التنسيق بشأن كميات التخزين خلال مواسم الفيضان المقبلة، وإمكانية التعاون في بناء محطات الكهرباء في إثيوبيا.
وشدد على أن أديس أبابا واجهت جميع الطلبات المصرية بالاعتراض والرفض، وأن الوفد التفاوضي الإثيوبي طالب بأن تكون الاستجابة للمطالب المصرية نظير إعادة تقسيم مياه النيل الأزرق، رغم أن المفاوضات لم تكن مخصصة لهذا الشأن.
وأشار إلى خُطورةِ الوضع هذا العام الناتجة من أن الأمطار المتوقَّع سقوطها على الهضبة الإثيوبية قد تتَناقَصُ عن المواسم الماضية، ممَّا يُنْذِرُ بقرب الدخول في مواسم جفاف الفيضان، في حين أن أديس أبابا بحاجة لكميات مياه قد تمتد لأكثر من 20 مليار متر مكعب لإتمام الملء، وهو ما يعني عدم وجود فائض يمكن أن يصل بنسب معقولة إلى مصر والسودان.
وأضاف: “ستكون الاستعانة بالمياه المخزنة في السد العالي أمراً حتمياً، لكنه خطير في الوقت ذاته، إذ إنه في حال استطاعت مصر توفير المياه التي تحتاجها هذا العام 2024، فلن تجد ما يكفيها العام المقبل 2025، كما أن ذلك لديه تأثيرات سلبية على سلامة السد”.
حذّر المصدر كذلك من أن “التعنت الإثيوبي مع الملء الخامس لسد النهضة ينذر بأوضاع كارثية، ويجعل القاهرة تفكر بتغيير أساليبها إلى أخرى أكثر خشونة مع إثيوبيا -وفق تعبيره- لا سيما أنها وجدت نفسها أمام حالة ندرة وصول المياه إليها، بعد استنزاف الأساليب السياسية والدبلوماسية كافة، مستمرة في المفاوضات لأكثر من 12 عاماً دون أي تطور ملموس”.
إلا أن الجانب الرسمي المصري، مكتفٍ بالتصريحات بعد توقف مسار التفاوض، ففي نهاية مايو/أيار 2024، حذر الرئيس عبد الفتاح السيسي ضمن كلمته في الجلسة الافتتاحية للمنتدى العربي- الصيني، من “عدم الوصول إلى اتفاق قانوني مُلزم بين مصر وإثيوبيا والسودان”، مطالباً بالأخذ بعين الاعتبار أن مصر “لن تسمح بكل ما من شأنه العبث بأمن واستقرار شعبها”، على حد قوله.
أما وزير الخارجية المصري سامح شكري، فقال إن إثيوبيا لا تلتفت إلا للمصالح الفردية ولا تراعي الحد الأدنى لمبادئ وحسن الجوار، مضيفاً أن هذا ما دفع بلاده لاتخاذ القرار بإيقاف مشاركتها في تلك المفاوضات التي لا تفضي إلى نتائج ملموسة طالما استمرت إثيوبيا في نهجها الحالي.
الملء الخامس لسد النهضة
وتمضي إثيوبيا نحو خططها الساعية لملء وتشغيل سد النهضة رغم اعتراض دولتي المصب (مصر والسودان)، ودون الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم، وسط توقعات بأن تلجأ مصر إلى المياه المخزنة في بحيرة السد العالي، ومخاوف من انعكاس ذلك سلباً على سلامة السد العالي، مع مضي أديس أبابا بالملء الخامس لسد النهضة.
يأتي ذلك أيضاً في ظل مشكلات شح المياه في مصر، التي تأثرت بها عددٌ من الترع والبحيرات، تحديداً في محافظات الدلتا وتحاول الحكومة المصرية التغلب عليها عبر التوسع في خطط تحلية المياه.
وسبق أن تداول عدد من الباحثين المصريين صوراً حديثة عبر الأقمار الصناعية أظهرت استعدادات أديس أبابا لبدء الملء الخامس لسد النهضة، وذلك في ظل حالة من الصمت الرسمي المصري إزاء الموقف من الملء الجديد.
خاصة وأن الملء الخامس لسد النهضة يأتي مع إعلان القاهرة في ديسمبر/كانون الأول 2023 فشل آخر جولة من المفاوضات التي استمرت نحو 4 أشهر، وتوالي المطالبات المصرية بإعداد دراسات فنية تفصيلية حول آثار السد، دون استجابة من الجانب الإثيوبي.
إثيوبيا تتحكم في كميات المياه الواردة إلى مصر
من جانبه، أكد خبير مصري في شؤون المياه على صلة وثيقة أيضاً بملف التفاوض مع إثيوبيا، أن الملء الخامس لسد النهضة يُعَدُّ جزءاً من مراحل تخزين المياه في بحيرة سد النهضة الذي يكتمل ملؤه بالوصول إلى 74 مليار متر مكعب من المياه.
وأشار في حديثه لـ”عربي بوست” إلى أن أديس أبابا خزّنت حتى الآن 41 مليار متر مكعب، ويتبقى أمامها 33 مليار متر مكعب، غير أن الملء الخامس لسد النهضة يختلف عن التخزينات الأربعة السابقة إذ إن تخزين كميات المياه كان بحسب ارتفاع السد، والآن السد وصل إلى نهاية الارتفاع.
وذكر أن الملء في السنوات الماضية كان يسمح بأن يتم تمرير المياه عبر الممر الأوسط، والآن جرى تجاوز ذلك، بعد أن اقتربت من نهاية ملئه، وأن المياه تتجمع إلى أن تسمح أديس أبابا بتمريرها لدول المصب عبر البوابات الموجودة أعلى قمة السد.
وفي حال قامت إثيوبيا بغلق هذه البوابات، فإن أقصى ما يمكن تخزينه قد يصل إلى 23 مليار متر مكعب، وفي حال فتحت البوابات بحيث تتمكن من تركيب باقي التوربينات التي تولد من خلالها الكهرباء، فإنها قد لا تكون بحاجة إلى 10 إلى 15 مليار متر مكعب من المياه، وفي تلك الحالة قد لا تتضرر مصر بصورة كبيرة، على حد قوله.
وأوضح أن فكرة الوصول إلى ملء 23 مليار متر مكعب من المياه في موسم الفيضان الحالي مستبعدة، لأن توربينات توليد الكهرباء لم يتم تركيبها وتشغيلها بعد، بعكس ما تؤكده إثيوبيا بأنها ماضية في ذلك، مضيفاً أن القاهرة تدرك بأن هناك فرصة لتَجَنُّبِ التضرر هذا العام.
لكنه اعتبر أن الأزمة تتمثل في أن إثيوبيا الآن أضحت المتحكِّمة في كميات المياه الواردة إلى مصر، التي لم يصدر منها رد فعل حتى الآن.
ويرى المصدر ذاته أنه في حال عادت المفاوضات مرة أخرى خلال الأيام المقبلة -وهو أمر مستبعد بحسب تقديره- فإنه يمكن التفاوض حول كميات المياه المخزنة في الملء الخامس، مشدداً على أن إثيوبيا لديها القدرة على التحكم في التخزين عبر إغلاق البوابات أو فتحها، وقد لا تكون بحاجة من الأساس للتخزين هذا العام، إذا لم تقم بتركيب توربينات توليد الكهرباء، غير أن الأزمة تتمثل في الجمود السياسي بين البلدين، وفق قوله.
وأكد أن الحكومة المصرية تضع في اعتباراتِها جميع الاحتمالات بما في ذلك الوصول لأقصى كمية تخزين وهي 23 مليار متر مكعب، وفي تلك الحالة من المتوقع أن تصل إلى مصر حوالي 30 مليار متر مكعب من المياه بدلاً من 55 مليار متر مكعب.
كما يمكن للحكومة الاستعانة بالكميات المنقوصة من بحيرة السد العالي، وفي حال عدم تشغيل التوربينات، فهناك فرصة لوصول كميات أكبر من المياه إلى مصر خلال الأشهر التي تلي فترة الصيف وحتى مارس/آذار من العام المقبل 2025، لأن أديس أبابا ستضطر لفتحها لإفراغ جزء من خزان السد وملئه بمياه الأمطار في بداية فصل الشتاء.
تبعات الملء الخامس: تأثر الموسم الزراعي الحالي
كان التخزين الرابع لسد النهضة قد توقف في التاسع من سبتمبر/أيلول 2023 عند تخزين 41 مليار متر مكعب من المياه، ثم فتحت إثيوبيا بوابتي التصريف في 31 أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته، وفي 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 خفضت منسوب البحيرة لتكملة خرسانة الممر الأوسط، ليصل حالياً إلى 35 مليار متر مكعب.
يأتي ذلك في حين تعاني مصر شحاً مائياً، وتعتمد بشكل أساسي على مياه النيل، إذ تبلغ حصتها 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، في حين تبلغ استخدامات القاهرة الفعلية الحالية من المياه نحو 80 مليار متر مكعب سنوياً، ويتم تعويض الفجوة بتدوير وإعادة استخدام مياه الصرف الزراعي، بحسب وزير الري المصري، الدكتور هاني سويلم.
وكان سويلم أكد خلال مؤتمر “أسبوع القاهرة للمياه” أن “مصر تقوم بتدوير وإعادة استخدام نحو 26 مليار متر مكعب سنوياً من مياه الصرف الزراعي لتعويض العجز”.
وشدد خبير بمجال الزراعة في مصر في حديثه لـ”عربي بوست”، طالباً عدم ذكر اسمه، على أن الموسم الزراعي الحالي سيتأثر جراء تراجع كميات المياه الواردة إلى مصر، وعدم القدرة على توفير الكميات التي يحتاجها الفلاحون في كافة المحافظات المصرية.
وأشار إلى أن العديد من المحاصيل الزراعية سترتفع أسعارها، وفي مقدمتها القمح والأرز والسكر، وهي محاصيل بحاجة إلى كميات كبيرة من المياه، قد لا تتوفر، أو يتم توفيرها بصعوبة عبر المياه الجوفية التي تحتاج إلى ماكينات لسحبها، وهي بدورها تعمل بالسولار، الذي ارتفعت أسعاره بصورة كبيرة.
وأوضح أن الأزمة تكمن في أن المياه الجوفية في الكثير من المناطق أضحت شحيحة جراء استخدامها بكثافة خلال السنوات الأربع الماضية، وهي الفترة التي شرعت فيها إثيوبيا بملء السد، إلى جانب أن هذه المياه غير متجددة.
وأكد مزارعون أن المياه المستخرجة من جوف الأرض حالياً لا تكفي للري، وهو ما يشكل حالة ذعر لديهم، لأنهم مقبلون على “كارثة” بسبب نقص المياه.
ولفت الخبير الزراعي إلى أن تأثيرات شح المياه تظهر في انخفاض مناسيب المياه في بعض الترع الموجودة في محافظات الدلتا وبينها ترعة السويس، وأن الحكومة حاولت التدخل خلال الفترة الماضية لزيادة مناسيبها، بعد أن تسببت في أزمة شح مياه بالمحافظة بأكملها، مما ترتب عليه انقطاع المياه لفترات طويلة.
وقال إن التوجه الحكومي لاستخدام المياه المخزنة بالترع والبحيرات وتحليتها/ يقود لمشكلات شح المياه التي تؤثر سلباً على الزراعة.
وقبل أيام، عقد رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، اجتماعاً لمتابعة جهود توفير مياه الشرب والري بمحافظة السويس، وشهد مناقشة عدد من المحاور المتعلقة بجهود توفير مياه الري للأراضي الزراعية في محافظة السويس، وكذلك جهود توفير مياه الشرب، وإقامة المزيد من محطات التحلية، وذلك بالتنسيق بين وزارة الموارد المائية والري، والشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي.
بحسب دراسة أجرتها دورية “أجريكلتشر آند فود ريسيرش“، المتخصصة في شؤون المناخ، فإن تغير المناخ وتراجع معدلات المياه يشكلان تهديداً محتملاً لخطط مصر الطموحة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح.
وبحثت الدراسة تأثيرات التغير المناخي على إنتاجية القمح واحتياجاته المائية عبر مناطق مختلفة في مصر، تتضمن مصر السفلى والوسطى والعليا، بالإضافة إلى مناطق خارج الوادي والدلتا.
وأجرى الباحثون تحليلًا لبيانات المناخ والمحاصيل على مدار ثلاثة عقود من 1987 إلى 2019، باستخدام تقنيات إحصائية متقدمة، لتحديد الاتجاهات في العوامل المناخية المختلفة وتأثيرها على مراحل نمو القمح.
وكشفت النتائج أنه على الرغم من زيادة إنتاجية القمح خلال العقود الثلاثة الماضية، إلا أن التقلبات المناخية أثرت سلباً على إنتاجيته واحتياجاته المائية، مؤكدة تزايد الاحتياجات المائية لمحصول القمح بنسبة 12% في مصر السفلى، و15% في مصر الوسطى والعليا، و18% في المناطق الجديدة خارج الوادي والدلتا.