شائعات مصدرها إعلام عبري بسحب دول غربية السفراء من بيروت، وحديث هو الأول من نوعه لبنيامين نتنياهو عن “تغيير الوضع الراهن في الجبهة الشمالية”، ومؤشرات متسارعة هنا وهناك، فهل أصبحت الحرب بين إسرائيل ولبنان مسألة وقت؟
مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، قال الإثنين 24 يونيو/حزيران 2024، إن “الشرق الأوسط بات على أعتاب امتداد رقعة الصراع إلى لبنان”، فهل هذه معلومة أم قراءة لما تشهده الساحة من تصعيد خلال الأيام القليلة الماضية.
كانت المناوشات الحدودية بين إسرائيل وحزب الله اللبناني قد شهدت تصعيداً غير مسبوق خلال الأسابيع القليلة الماضية، وسط تحركات مكثفة من إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لمنع اندلاع حرب شاملة بينهما، لكن المؤشرات ترجح فشل تلك الجهود على ما يبدو، بحسب المراقبين.
جولة التصعيد الحالية بدأت عندما أسفرت غارة إسرائيلية الأسبوع الماضي في جنوب لبنان عن مقتل القيادي في حزب الله طالب سامي عبد الله (أبوطالب)، وردّت الحركة بإطلاق مئات الصواريخ والطائرات المسيرة على إسرائيل على مدى 3 أيام. أعقب ذلك إعلان موافقة جيش الاحتلال الإسرائيلي على خطة لهجوم محتمل على لبنان، بالتزامن مع بث حزب الله فيديو التقطته طائرة مسيرة (الهدهد) من فوق مدينة حيفا، وعرض لمواقع عسكرية وبنية تحتية حيوية لإحدى أكبر مدن دولة الاحتلال.
نتنياهو يتحدث عن “الحرب في الشمال”
خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي في مقابلة تلفزيونية نادرة، مساء الأحد 23 يونيو/حزيران، ملوحاً بقرب اندلاع الحرب على الجبهة الشمالية، أي مع لبنان، ومشيراً إلى قرب انتهاء “العمليات العسكرية المكثفة” في رفح، ما يسمح بنقل جنود من الجبهة الجنوبية – أي غزة إلى الجبهة الشمالية.
مقابلة نتنياهو مع القناة 14 العبرية، هي الأولى له منذ اندلاع الحرب على غزة قبل 260 يوماً، حيث يركز رئيس الوزراء على إجراء مقابلات مع شبكات التلفزة والإعلام الأمريكي باللغة الإنجليزية، كما أن هذه القناة الإسرائيلية هي أحد أهم أبواق اليمين المتطرف في دولة الاحتلال، أي أن نتنياهو كان يتحدث إلى المعسكر الذي يدعمه بالأساس، بحسب تقرير لصحيفة هآرتس الإسرائيلية.
قال نتنياهو إنه بمجرد انتهاء ما وصفه بـ”القتال الشرس في غزة”، فإن ذلك سيسمح لإسرائيل بنشر المزيد من القوات على الحدود الشمالية مع لبنان: “بعد انتهاء مرحلة (القتال) المكثف، سيتسنى لنا نقل جزء من القوات شمالا. وسنفعل ذلك. أولا وقبل كل شيء لأغراض دفاعية. وثانيا، لإعادة سكاننا (الذين تم إجلاؤهم) إلى منازلهم”.
يشير نتنياهو هنا إلى سكان المستوطنات على طول الحدود الشمالية مع لبنان، والذين تم إجلاؤهم منذ اندلاع الحرب على غزة، حيث بدأت أيضاً المناوشات الحدودية بين إسرائيل وحزب الله. وبات موعد عودة هؤلاء المستوطنين، إضافة إلى مستوطني غلاف غزة في الجنوب، أحد الملفات التي توظفها المعارضة ضد نتنياهو وحكومته المتطرفة.
شائعات عن سحب سفراء من لبنان
حديث نتنياهو عن الاستعداد لشن حرب على لبنان تزامن مع انتشار أنباء عن سحب دول غربية لسفرائها من لبنان ودعوة مواطنيها إلى مغادرة البلاد على وجه السرعة، وهو ما وصفه وزير الإعلام اللبناني، زياد مكاري، بأنه “جزء من الحرب النفسية”.
وأوضح مكاري أن تلك الإشاعات بسحب السفراء شملت دولاً منها ألمانيا والنمسا وبلجيكا وهولندا وفرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا وإسبانيا، مشيراً إلى أن مثل هذه النوعية من “الأخبار الزائفة هي جزء من الحرب النفسية التي غالباً ما تستخدمها إسرائيل بوسائل متعددة”، بحسب وسائل إعلام لبنانية شبه رسمية.
تهديدات متبادلة
بعيداً عن الإشاعات والحرب النفسية، تشهد الحدود اللبنانية الإسرائيلية تصعيداً غير مسبوق خلال الأسابيع الأخيرة بالفعل؛ فجيش الاحتلال استهدف قيادياً كبيراً في حزب الله “أبو طالب” بينما وصلت صواريخ ومسيرات حزب الله إلى عمق أكبر وأشعلت حرائق وأوقعت قتلى ومصابين، لكن ربما تكون حالة “الذعر” التي عبر عنها رئيس شركة الكهرباء الإسرائيلية أبرز مخرجات هذه الجولة من التصعيد.
كان المدير العام لشركة إدارة الكهرباء الحكومية الإسرائيلية، شاؤول غولدشتاين، قد حذر (الخميس 20 يونيو/حزيران) من أن حزب الله يمكنه بسهولة إسقاط شبكة الكهرباء الإسرائيلية. وقال غولدشتاين: “نحن في وضع سيئ ولسنا مستعدين لحرب حقيقية”، وفق القناة 12 العبرية، مضيفاً أن إسرائيل لن تكون قادرة على ضمان الكهرباء في حالة الحرب في الشمال (مع لبنان) بعد 72 ساعة من دون كهرباء، مؤكداً أنه سيكون من المستحيل العيش هنا، “ولسنا مستعدين لحرب حقيقية”.
لكن معسكر نتنياهو لا يبدو عابئاً بهذه الآراء، إذ أعلنت هيئة أركان جيش الاحتلال الأسبوع الماضي أنهم انتهوا من “تجهيز خطة الحرب على الجبهة الشمالية”، في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل استهداف العمق اللبناني وقتل قادة وأعضاء في حزب الله ومدنيين كذلك.
وفي الوقت نفسه، لا يكف نتنياهو ومسؤولي حكومته عن التهديد بشن حرب شاملة على حزب الله من شأنها أن تؤدي إلى “حرق وتدمير لبنان”. وقالت وسائل إعلام إسرائيلية، الأحد 23 يونيو/حزيران، إن تل أبيب أبلغت واشنطن بأنها قد تستخدم أسلحة لم تستخدمها من قبل في حال نشوب حرب شاملة مع حزب الله اللبناني.
فقد نقلت القناة 12 العبرية عن مصادر مطلعة لم تسمها قولها إن إسرائيل بعثت رسالة إلى البيت الأبيض قالت فيها إنها ستستخدم أسلحة لم تستخدمها من قبل مطلقاً -دون تحديد طبيعتها- للتعامل مع حرب محتملة مع حزب الله في لبنان، لحسمها سريعاً وعدم الانجرار إلى حرب طويلة. لم تحدد القناة الجهة الإسرائيلية التي أرسلت الرسالة أو توقيت إرسالها وكذلك طبيعة الرد الأمريكي عليها، كما لم تصدر بيانات رسمية من تل أبيب أو واشنطن بشأن الرسالة.
على الجانب الآخر، جاء خطاب الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، (الأربعاء 19 يونيو/ حزيران) خلال تأبين القيادي الذي اغتالته إسرائيل، حاملا تهديدات مباشرة وغير مسبوقة، إذ أكد أن “المقاومة ستقاتل بلا ضوابط أو قواعد أو سقوف إذا فُرضت عليها حرب شاملة مع إسرائيل”، مشيراً إلى أن “العدو يجب أن ينتظر المواجهة براً وبحراً وجواً”.
ماذا عن موقف إدارة بايدن؟
وسط هذه الاتهامات المتبادلة والتصعيد الذي وصل إلى نقطة غليان جديدة على ما يبدو، تسعى إدارة جو بايدن إلى احتواء الموقف ونزع فتيل حرب شاملة لا تريدها من جهة ولا أحد يمكنه توقع مداها أو نهايتها من جهة أخرى.
عقد المبعوث الأمريكي، آموس هوكشتاين، في تل أبيب وبيروت جولة أخرى من الاجتماعات خلف الأبواب المغلقة خلال اليومين الماضيين، لكن يبدو أن جهوده بلا ثمار حتى الآن، في ظل ارتفاع وتيرة التهديدات الصادرة من الجانب الإسرائيلي بصفة خاصة.
لكن على الرغم من ذلك، تؤكد إدارة جو بايدن على دعمها الكامل لإسرائيل في حالة اندلاع حرب شاملة مع حزب الله، وهو ما يبدو أنه “يشجع نتنياهو على مواصلة العمل ببوصلته الخاصة التي لا يحركها سوى هدف البقاء في السلطة بأي ثمن، ويشجعه أيضاً على تجاهل بايدن بشكل مطلق وكأنه لا وجود له”، بحسب مقال في نيويورك تايمز، عنوانه: “لماذا لا يأخذ نتنياهو بايدن على محمل الجد؟”.
إسرائيل والحرب على لبنان
الآن وقد وصلت الأمور مرة أخرى إلى نقطة الغليان وباتت طبول الحرب أعلى صوتاً من أي وقت مضى، وبخاصة من جانب إسرائيل وحكومتها بقيادة نتنياهو، يتساءل الجميع عن إذا ما أصبحت الحرب بين إسرائيل ولبنان مسألة وقت فعلاً؟
فالمسؤولون الأمريكيون والأوروبيون باتوا يتحدثون علناً عن أن احتمالات توسع الحرب الإسرائيلية على غزة إلى صراع أوسع يشمل حرباً على لبنان أصبحت “أكبر من أي وقت مضى”.
مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، قال للصحفيين قبل اجتماع وزراء خارجية التكتل في لوكسمبورغ: “يتزايد خطر تأثير هذه الحرب على جنوب لبنان وامتدادها يوما بعد يوم. نحن على أعتاب حرب يتسع نطاقها”، بحسب رويترز.
بينما قالت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إن الوضع بين إسرائيل وحزب الله مقلق للغاية وإنها تعتزم زيارة لبنان قريباً، وأضافت: “أي تصعيد آخر سيكون كارثياً بالنسبة لشعوب المنطقة”.
في الوقت نفسه، قال رئيس هيئة الأركان المشتركة في البنتاغون، الجنرال تشالرز كوينسي، إن إيران “قد تكون أكثر ميلاً إلى تقديم مساعدات أكبر لحزب الله”، مضيفاً أن الحزب اللبناني المسلح يمتلك إمكانيات عسكرية أكبر مما لدى حماس (حركة المقاومة الفلسطينية الأكبر في غزة)، بحسب تقرير لموقع VOA الأمريكي.
وهناك ما يشبه الإجماع بين المراقبين والمحللين على أنه في حالة اندلاع الحرب بين إسرائيل وحزب الله اللبناني وتدخل إيران لدعم الحزب، ربما تندلع سلسلة من الأحداث تؤدي في النهاية إلى صراع مفتوح بين واشنطن وطهران، وهو سيناريو سعت إدارة جو بايدن منذ اللحظة الأولى إلى محاولة تفاديه بشتى الطرق.
فحتى عندما قامت إسرائيل باستهداف مبنى تابع للسفارة الإيرانية في دمشق واغتالت عدداً من جنرالات الحرس الثوري الإيراني، وردت إيران بإطلاق وابل من المسيرات على إسرائيل (المرة الأولى التي تستهدف فيها إيران الأراضي الإسرائيلية)، تم احتواء الموقف ولم تخرج الأمور عن السيطرة كما خشي الكثيرون وقتها.
هل يمكن تفادي المواجهة مرة أخرى؟
هذا المشهد المعقد والفاتورة الباهظة التي قد تنتج عن اندلاع حرب شاملة بين إسرائيل ولبنان قد تشكل في حد ذاتها رادعاً ينزع فتيل الحرب من الأساس، حسبما يرى بعض المراقبين. إذ استبعد الخبير العسكري والاستراتيجي، العقيد ركن حاتم كريم الفلاحي، اندلاع حرب شاملة، معتبراً أن الحرب قرار أمريكي بالمقام الأول قبل أن يكون إسرائيلياً.
خلال تحليله للمشهد العسكري في غزة ولبنان لقناة الجزيرة، قال الفلاحي إن فتح جبهة الشمال يحتاج دعماً أمريكياً، ولا تبدو واشنطن راغبة في ذلك بسبب قرب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وتزايد النفوذ الصيني، وتطورات الحرب الروسية الأوكرانية، وتخصيب إيران لليورانيوم.
كل هذه العوامل “تؤثر على الولايات المتحدة ومصالحها”، مشيراً إلى أن أي حرب شاملة تستدعي دخول أطراف أخرى في الحرب واستهداف المصالح الأمريكية، بحسب الفلاحي، مرجحاً أن يكون هناك تصعيد جوي أكبر في الجبهة الشمالية ومواجهة برية محدودة ضمن منطقة معينة، ولكن من دون الانزلاق إلى حرب شاملة ومدمرة.
وفي هذا الإطار، يرى كثير من المحللين الإسرائيليين أيضاً أن الوقت غير مناسب لشن حرب شاملة على لبنان، بينما تكثف المعارضة من هجومها على نتنياهو وحكومته. إذ جدد زعيم المعارضة، يائير لابيد، دعوته نتنياهو إلى الاستقالة لأنه “يشكل خطراً على أمن إسرائيل”، قائلاً عبر منصة إكس: “نتنياهو خطر على دولة إسرائيل”، و”خطر على مواطني البلاد”، و”غير مؤهل للعمل رئيساً للوزراء”.
لكن الحرب، سواء تلك المستمرة على غزة أو احتمال شنها على لبنان، والهروب إلى الأمام تظل استراتيجية نتنياهو الوحيدة للبقاء في السلطة، وهو ما يجعل من الجزم بعدم تجاوز نقطة الغليان الحالية وتحول المناوشات إلى حرب شاملة أمراً صعباً للغاية في جميع الأحوال.