الأخبار

أوجاع المصريين على أبواب الصيدليات.. اختفاء أدوية وارتفاع أسعارها و”العلاجات البديلة” تهدد حياتهم 

ثلاثة أسابيع قضاها الموظف الحكومي إسماعيل محمود للوصول إلى أحد الأدوية التي تعالج سيولة الدم، وخلال رحلة البحث تعرض محمود لأزمات صحية عديدة قبل أن يضطر أخيراً لأن يخوض تجربة الوقوف أمام صيدلية الإسعاف في وسط القاهرة في ظل تفاقم أزمة الدواء في مصر.

فقد أصبحت صيدلية الإسعاف المنفذ الوحيد الذي يمكن أن يوفر آلاف الأدوية الشحيحة بالأسواق، وتكشف قصة إسماعيل محمود مدى تفاقم أزمة الدواء في مصر التي تعانيها الصيدليات ومن ثم المرضى في الحصول على الدواء اللازم.

“رحلة عذاب” بحثًا عن علبة دواء

يشير محمود (50) عامًا إلى أنه كان معتادًا على دواء بعينه لعلاج سيولة الدم ويقوم بشرائه كل شهر من إحدى الصيدليات القريبة من منزله بمنطقة كرداسة بجنوب محافظة القاهرة، غير أنه منذ ما يقرب من شهر أكد له صاحب الصيدلية التي يتعامل معها بأن الدواء لا يتواجد في السوق.

الصيدلاني أوصى الموظف الحكومي المصري بالبحث عن بديل يمكن أن يؤدي الغرض ذاته، مشيرًا إلى أن الدواء الأساسي كان يتم استيراده من الخارج، وأضحى مطالبًا بأن يختار من بين نوعين من إنتاج الشركات المصرية، وفق ما صرح به محمود لـ”عربي بوست”.

عاد محمود إلى طبيبه المعالج والذي أخبره بأن الأدوية البديلة لا تؤدي الغرض المطلوب وأنها تؤدي إلى نتائج جانبية لمرضى القلب، وهو ما دفعه للبحث بكل الطرق عن العلاج الأصلي بدءًا من الصيدليات المتواجدة بمحافظته وخارجها إلى جانب التواصل مع الخط الساخن الذي حددته هيئة الدواء المصرية لطلب الأدوية التي تعاني شحًا في الأسواق.

لكن جميع محاولات إسماعيل محمود للوصول إلى الدواء الأصلي باءت بالفشل، ولم يجد أمامه من خيار غير الذهاب إلى صيدلية الإسعاف في وسط العاصمة المصرية القاهرة التي يصطف أمامها المواطنون في طوابير طويلة منذ الصباح الباكر بحثًا عن علبة دواء.

وتعد صيدلية الإسعاف منفذًا لبيع المنتجات الدوائية للشركة المصرية لتجارة الأدوية التابعة للحكومة، في ظل أزمة الدواء في مصر، وتعتبر أحد أكبر مستوردي وموزعي الدواء بمصر، وهي الأشهر من بين ما يقرب من 84 ألف صيدلية موزعة على مختلف المحافظات، حسب الهيئة العامة للدواء.

وقال المواطن المصري محمود لـ”عربي بوست” إنه وصل إلى الصيدلية في الثامنة صباحًا ووقف في طابور طويل خارج الصيدلية في ظل تكدس كبير من المرضى إلى أن وصل إلى النافذة التي يتواجد خلفها موظف استعلامات يبحث حالة كل مريض ويتأكد من توفر العلاج من عدمه.

وبعد أن تأكد منه منحه رقمًا لكي ينتظر دوره وكان أمامه 300 شخص ويتم السماح بدخول 20 شخصًا فقط داخل الصيدلية لصرف العلاج، لكنه فوجئ بأن سعر الدواء شهد زيادة قدرها 20% ولم يسمح له سوى بالحصول على علبة واحدة، ما يعني أنه سيضطر لتكرار ما وصفه بأنها “رحلة عذاب” للحصول على علبة دواء.


اختفاء الأدوية من الأسواق المصرية

قبل شهر ونصف أقرّت الحكومة المصرية بوجود نقص في بعض الأدوية في السوق المصري، إذ قال رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، في مؤتمر صحفي يوم 17 يوليو/تموز 2024، إن الحكومة تعمل على حل أزمة الدواء في مصر خلال 3 شهور.

كما أوضح المسؤول المصري أن احتياجات مصر من الدواء والمستلزمات الطبية بالعملة الصعبة تبلغ 250 مليون دولار أمريكي شهريًا، وقد تزيد في بعض الشهور.

وأشار مدبولي إلى أنه تم الاتفاق مع مصنعي الدواء على زيادة أسعار الأدوية المزمنة بشكل معقول وتعويض جزء من الخسارة عبر أدوية أخرى تُعتبر مكملات غذائية ليكون هناك توازن.

غير أن أزمة الدواء في مصر لم تنتهِ بعد تحديدًا على مستوى أدوية الأنسولين التي تشهد اختفاءً تامًا من الأسواق، وبات توفرها حصرًا في صيدلية الإسعاف التي يأتي إليها المواطنون من جميع المحافظات، بحسب ما أكده أيمن صفوت، أحد مرضى السكر.

ويقول صفوت (62 عامًا) إنه تعرض للإغماء بعد ثاني أيام وقوفه في طابور الحصول على الدواء من صيدلية الإسعاف إذ أنه وقف في الجو الحار لمدة أربع ساعات في اليوم الأول، لكن نفاذ الكميات الموجودة دفعه للعودة في اليوم التالي حيث كانت درجة الحرارة تقترب من 45 درجة مئوية، وأشار إلى أنه تعرض لمضاعفات صحية كادت أن تودي بحياته نتيجة عدم توفر الدواء المستورد وتراجع جودة الدواء المحلي البديل.

ويؤكد صفوت لـ”عربي بوست” أنه يحتاج إلى جرعة يومية من الأنسولين من نوع “ماكستراد 30″، ما يشير إلى أنه سيكون مضطرًا للذهاب إلى الصيدلية وخوض مغامرة الحصول على الدواء كل عشرة أيام تقريبًا.

وأشار إلى أنه حاول الحصول على العقار بكافة السبل من الصيدليات المتواجدة في مناطق متفرقة بما فيها الصيدليات الكبيرة لكنه فشل في ذلك، وأوضح أن وجود وصفة مكتوبة من الطبيب المعالج بصرف الدواء يساعده في الحصول عليه من الصيدلية الأكبر والتي لا تعترف سوى بالوصفات المختومة إضافة إلى بطاقة المريض ذاته.

وتذكر تقديرات شعبة الأدوية أن النقص في حجم المعروض بالأسواق يبلغ حوالي ألف نوع من أصل 17 ألف صنف، لكن الاستغاثات عبر منصات التواصل الاجتماعي وشكاوى الصيادلة تشير إلى تفاقم الأزمة وتضاعف حجم الأدوية غير المتوفرة، بخاصة أدوية السكري وهو المرض الذي يعاني منه نحو 11 مليون مواطن حتى ديسمبر/كانون الأول 2022، وفق تصريحات رسمية.

الدواء البديل يهدد حياة المرضى

كانت هيئة الدواء المصرية أطلقت على موقعها خدمة البحث عن مثائل وبدائل الأدوية المهمة التي يتكرر عليها الشكوى بعد تفاقم أزمة الدواء في مصر.

لكن المشكلة كما يقول دكتور رامي محمد، طبيب رعاية بأحد المستشفيات الحكومية، أن هناك فرق بين الدواء الأصلي والبديل لدرجة أن هناك مرضى في غرف الرعاية الحرجة بسبب تناولهم الدواء البديل الذي أدى لارتفاع حموضة الدم والدخول في غيبوبة.

وأوضح محمد أن مصدر المادة الخام الفعالة التي تدخل في الإنتاج يختلف من حيث الجودة والفاعلية ومدة التأثير على المريض والدواء البديل يهدد الحياة خاصة إذا تفاعل مع أدوية أمراض الضغط والسكر والقلب والأوعية الدموية والدهون الثلاثية.

كما يشير الطبيب إلى أن بعض الأدوية البديلة لم تخضع لتجارب كثيرة للتأكد من صلاحية المادة الفعالة فيها مما يتسبب في مضاعفات للمرضى وحدوث انتكاسة وحساسية تجعلنا كأطباء نُشخِّص المرض بطريقة خاطئة.

وتؤكد سامية محمد، (اسم مستعار لمريضة سكر)، أن اختفاء الدواء ليس الإشكالية الوحيدة التي تقابلها لأن حصولها عليه من الممكن أن يبقى مسألة وقت لحين جمعه وإن كان ذلك يتم بصعوبة بالغة لكن الأزمة الأكبر تتمثل في سعر الدواء الذي تضاعف في غضون الشهر الماضي مع اختفائه من الأسواق.


إذ أشارت إلى أنها حصلت إلى علبة دواء “تروليستي” ووجدت ثمنها 3500 جنيها بعد أن كان سعرها 2500 جنيهًا قبل أسبوعين فقط، وأوضحت أن قبل ذلك لم يكن يتجاوز سعرها 1000 جنيه، مشيرة إلى أن هذا الدواء متوفر أيضًا في السوق السوداء بمبلغ 7000 جنيه.

وقالت المتحدثة لـ”عربي بوست” إنها لم تستطع شراء العقار وفي الوقت ذاته يرى الطبيب أن البديل الذي يصل إلى 900 جنيه لا يؤدي نفس الغرض، “لكنها مضطرة إليه لأنه يتماشى مع قدراتها المالية وتؤمن أن الأقدار بيد الله”.

كما لفتت سامية محمد إلى أنها اضطرت لبيع إحدى الأجهزة الكهربائية التي لا تحتاجها في المنزل لتوفير علاج الشهر الماضي، لكنها لا تعرف ماذا بعد، وما الذي يمكن أن تبيعه مستقبلاً لتوفير ثمن العلاج.

وكان نائب رئيس الوزراء ووزير الصحة والسكان المصري الدكتور خالد عبدالغفار، قد أعلن في أغسطس/آب 2024، أن حاجات مصر من الأنسولين سنويًا تصل إلى 27 مليون عبوة من كل التركيزات.

فيما أشار إلى أن مصر بكل مصانعها تنتج 4 مليارات عبوة من الدواء سنويًا، ولدينا 1.5 مليون مريض يحتاج إلى علاج من مرض السكري مسجل

في

التأمين الصحي.

من يقف وراء أزمة الدواء في مصر؟

يقول مصدر مطلع بجمعية الحق في الدواء، إن أزمة الدواء في مصر سببها سعر الصرف مع استيراد المواد الخام لإنتاج الدواء المحلي من الخارج، إلى جانب استيراد العديد من الأدوية من شركات دواء أجنبية.

وأضاف أنه في ظل وجود فجوات في تمويل الشركات المحلية وعدم توفر الدولار بسهولة للاستيراد من الخارج تنشب الأزمة، لافتًا إلى أن المشكلة لا تتمثل فقط في نقص الدواء ولكن في عدم قدرة المواطن على تحمل الأسعار الجديدة، وأن الحل يبقى في دعم الحكومة للصناعة الوطنية للحفاظ على صحة المواطنين.

وأضاف أن الحكومة عليها اتخاذ إجراءات قصيرة وطويلة المدى، تتمثل الأولى في دعم المصنعين ومنحهم فروق الأسعار بين سعر الإنتاج وقيمته بالأسواق وذلك لضمان عدم ارتفاع الأسعار، وأن هذا الإجراء يخدم تطوير الصناعة الوطنية التي لديها القابلية للتطور بخاصة أنها بدأت منذ أربعينيات القرن الماضي، وأن توفير التمويل لأكثر من 180 مصنعا يعملون في الداخل كفيل بأن يُنهي الأزمة الراهنة.

وزادت مطالب شركات الأدوية في مصر برفع أسعار منتجاتها على أساس ارتفاع تكلفة مدخلات الإنتاج المستوردة التي تمثل 90% من مكونات الأدوية المصنعة محليًا بعد تحرير سعر الصرف في وقت سابق من مارس/آذار الماضي، ما أثار جدلًا بشأن السعر العادل للمستهلك وسط ارتفاع التضخم لمستويات قياسية.

وأكد المصدر ذاته أن الإجراء الآخر وهو طويل المدى، يتمثل في التوجه نحو تصنيع المواد الخام محليًا، وقال “يمكن أن يكون لدينا قاعدة جيدة في الداخل بعد خمس سنوات من الآن، والاقتداء بالتجربة الهندية التي تزود الدواء للعالم أجمع، وبدأت في تصنيع الأدوية في حقبة زمنية تلت الدولة المصرية، ويمكن وضع خطة لتصدير المواد الخام إلى دول القارة الأفريقية التي تبحث عنها بدلاً من تهريب الأدوية المصرية إليها”.

وأشار إلى أزمة الأنسولين على وجه التحديد ترجع لأنه يتم استغلالها تجاريًا في التصدير إلى الخارج من خلال طرق جانبية وغير شرعية وفي الأغلب تذهب إلى دول مثل ليبيا والسودان والمملكة العربية السعودية.

كما أضاف أن شركات الأدوية تستفيد من فروق سعر العملة، وهو ما يؤدي إلى الأزمة الحالية والتي ينتج عنها ارتفاع في أسعار الأدوية بنسب تتراوح بين 50% إلى 70%، خاصة في أدوية السكري والضغط والقلب والدهون الثلاثية وسيولة الدم، دون أن يعرف أحد متى يمكن أن تنتهي الأزمة الراهنة.

وتزامناً مع استمرار الأزمة الراهنة، كشف وزير الصحة المصري، خالد عبدالغفار عن تصدير مصر للأنسولين المحلي، خلال الفترة الماضية، إلى أميركا الجنوبية، في وقت تشهد الأسواق عدم توافره في الصيدليات، سواء المحلي أو المستورد، مبررًا كلامه قائلًا: “إن مصر لم تُصدر إلا شحنة واحدة صغيرة فقط، رغم أنه أكد أن الاعتماد على الأنسولين المصري “غير كافٍ ولا يغطي احتياجات الدولة”.

ولدى أكبر مصانع المصرية ويدعى “مصنع المهن الطبية”، لإنتاج الأنسولين طاقة إنتاجية تبلغ 18 مليون عبوة عالميًا، وبدأ حاليًا في إنتاج 12 مليون عبوة، بينما تحتاج الدولة إلى أكثر من 27 مليون عبوة سنويًا.


البحث عن بدائل طبيعية

تشير سماح إبراهيم، صاحبة إحدى الصيدليات الشهيرة بمحافظة الجيزة، إلى أنها تعاني يوميًا على المستوى النفسي من عدد المواطنين الذين يتوافدون عليها للسؤال فقط عن أسعار الأدوية دون أن يكون لديهم القدرة على شرائها.

وقالت إن غالبيتهم من كبار السن الذين تخطوا سن المعاش ويعانون الآن أوضاع مادية صعبة جراء انخفاض ما يتقاضونه كل شهر، في حين أنهم الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض المختلفة بحكم السن، لافتة إلى أن الكثير أصبح يسأل ويلجأ إلى المسكنات التي لديها أضرار جانبية ولكنها تساعدهم على أن يتجاوزوا ولو مؤقتًا صعوبة الألم الناتج عن التعب.

وأشارت إلى أن الكثير يسأل عن البدائل المصرية للأدوية المستوردة التي قد لا تتوفر بصورة كبيرة الآن نتيجة زيادة الإقبال عليها ليس بسبب جودتها ولكن لانخفاض أسعارها، كما أن البعض يسأل عن البدائل الطبيعية والعلاجات العشبية التي يمكن أن تساعد على التعامل مع أدوار البرد أو آلام المفاصل أو الأمراض الجلدية، وهو أمر لم يكن متواجدًا من قبل.

ويأتي ذلك بالتزامن مع انخفاض تام لعدد من أدوية الأمراض المزمنة مثل السكري والضغط والقلب بمعدل يصل إلى 70% للشهر الرابع على التوالي بالإضافة إلى بعض أنواع المضادات الحيوية وأدوية الغدة، والأدوية النفسية والعصبية، والأمراض المناعية، والهرمونات، بحسب ما أكدته الصيدلانية ذاتها والتي أشارت إلى أن سوق الدواء يعاني حالة من الاضطراب هي الأقوى منذ عقود طويلة.

وفي المقابل يؤكد رئيس شعبة الدواء، علي عوف، أن الأدوية الناقصة تصل إلى 1000 نوع تقريبًا تتعلق بمضادات حيوية وأدوية السكر وأدوية الضغط، مشيرًا إلى أن السوق المصرية بها 14 ألف نوع من الأدوية، بينها 4 آلاف نوع هي الأكثر شيوعًا، يتصدرها الألف نوع التي تواجه نقصًا حادًا في الأسواق، بحسب تصريحات صحافية له.

وكان عوف أكد في مطلع سبتمبر/أيلول 2024، أن شعبة الأدوية ستقدم طلبًا للحكومة المصرية لطرح مبادرة بقيمة 50 مليار جنيه لتمويل شركات الأدوية العاملة في البلاد بفائدة منخفضة وميسرة لحل أزمات القطاع، والذي يعاني من اختناقات في السيولة المالية منذ قرار البنك المركزي المصري بتحرير سعر الصرف.