أعلنت الحكومة البريطانية الجديدة مؤخراً أنها ستجري مراجعة لاستراتيجيتها الدفاعية، وتهدف إلى تقييم وتحديث قدراتها الدفاعية لضمان أمنها الداخلي وقوتها الخارجية. هذه المراجعة، التي يقودها اللورد روبرتسون، الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، من المنتظر أن تُلقي بظلالها على مستقبل السياسة الدفاعية البريطانية وتأثيرها على التحالفات الدولية.
تأتي المراجعة كاستجابة للتحديات الجديدة التي فرضتها الحرب الروسية الأوكرانية والصعود الصيني، حيث كشفت عن نقص في القدرة الدفاعية للغرب في توفير الدعم الجوي والصاروخي لأوكرانيا، بالإضافة إلى الافتقار للمخزونات الحربية والذخيرة والقدرات الصناعية لتجديدها. إذ بدت المخزونات الدفاعية في بريطانيا ضئيلة بشكل ملحوظ نتيجة لعقود من النقص في الاستثمار والإنفاق الدفاعي.
من المتوقع أن تركز المراجعة على تبني سياسة “الناتو أولاً” (NATO-First)، وتأمين دعم مستمر لأوكرانيا، والحفاظ على الردع النووي البريطاني. وسيسعى الفريق المسؤول عن المراجعة لمعالجة الأسئلة الأساسية حول قدرات بريطانيا الدفاعية، تحديد حجم وشكل القوات اللازمة، وأولويات التسليح في ضوء التقنيات الجديدة، وتحديد الأدوار والقدرات والإصلاحات المطلوبة من وزارة الدفاع.
في ظل هذه الظروف، يبرز سؤال محوري: كيف ستتكيف استراتيجية المملكة المتحدة الدفاعية مع التحولات الجيوسياسية الراهنة، وهل ستكون قادرة على مواجهة التحديات الأمنية المتغيرة بشكل يضمن استمرارها كقوة عظمى على الساحة الدولية؟
منصة أسباب المعنية بالتحليل السياسي رصدت في تقرير طبيعة هذه الاستراتيجية وإمكانية تحققها في ظل تنامي الخوف الكبير من الصراع المحتدم بالجوار بين أوكرانيا وروسيا والقلق الأوروبي من تنامي نفوذ موسكو.
التهديد الروسي أو الأهداف
يقول موقع أسباب للشؤون الاستراتيجية، أن الإعلان البريطاني يأتي في سياق تصاعد الصراع الدولي بين الغرب من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، مما خلق توترات، أبرزها حرب أوكرانيا، وزاد من حدة السباق العسكري والتقني، مما أعاد اعتبارات الأمن القومي والجغرافيا السياسية إلى صدارة أولويات الدول الرئيسة في العالم، خاصة التي تقع في قلب هذا الصراع. وهو ما تواكب منصة أسباب تطوراته أولا بأول، من خلال استعراض الوثائق الاستراتيجية التي أعلنت عنها مجموعة من الدول، مثل: استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، وتقرير العمل الصيني، وقانون العلاقات الخارجية الصيني، وعقيدة السياسة الخارجية الروسية، وأولويات الناتو 2030، واستراتيجية الأمن القومي الألماني، واستراتيجيتا اليابان وكوريا الجنوبية.
يأتي إطلاق المملكة المتحدة مراجعة الدفاع الاستراتيجية في سياق الاستجابة العاجلة للمخاوف الأمنية والجيوسياسية المستمرة في أوروبا. إذ عادت روسيا كتهديد عسكري حقيقي للمملكة المتحدة وأوروبا لأول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، بالإضافة لانخراط بريطانيا في جهود احتواء الصين عبر تحالف أوكوس. بالإضافة إلى تزايد المخاوف الأوروبية من السياسة الخارجية الأمريكية المتغيرة ونهج الرئيس الأميركي الجديد تجاه مواصلة دعم أوكرانيا، والالتزام بتعزيز حلف شمال الأطلسي “الناتو”. وهي نفس المخاوف التي أجرت ألمانيا في ضوئها تحولا استراتيجيا نحو السعي من أجل الاستقلال العسكري.
حرب أوكرانيا تدق ناقوس الخطر
وبحسب أسباب كشفت البيئة الجيوسياسية الجديدة التي خلقتها الحرب الروسية الأوكرانية عن تحديات تواجه قدرة الغرب عن حشد الموارد الكافية للدفاع الجوي والصاروخي لمساعدة القوات الأوكرانية على حماية المدن والبنية التحتية، فضلا عن الافتقار إلى المخزونات الحربية والذخائر والقدرة الصناعية على تجديدها، وعلى سبيل المثال أصبحت مخزونات المملكة المتحدة من الذخيرة والمعدات والأفراد المدربين ضئيلة للغاية بسبب عقود من نقص الاستثمار والإنفاق الدفاعي مقارنة بالطموحات السياسية.
من المرجح أن تؤكد مراجعة الدفاع الاستراتيجية على وضع سياسة “الناتو أولاً” (NATO-First) في قلب خطط الدفاع البريطانية، إلى جانب ضمان الدعم المستمر لأوكرانيا، والاحتفاظ بنظام الأسلحة النووية في بريطانيا باعتباره يمثل الردع النووي للبلاد. وسيسعى الفريق المسؤول عن المراجعة للإجابة عن الأسئلة الجوهرية المتعلقة بقدرات بريطانيـا الدفاعية، وتحديد حجم وشكل القوات التي تحتاجها البلاد، وأولويات التسليح بعد أن برز الدور الحاسم للتقنيات الجديدة، وتحديد الأدوار والقدرات والإصلاحات المطلوبة من وزارة الدفاع لمواجهة التهديدات المتوقعة.
وتستهدف المراجعة التخلص من القدرات الدفاعية الأقل أهمية وإعطاء الأولوية للقدرات التي تتطلبها المستجدات، على سبيل المثال، مع تخطيط روسيا لنشر صواريخ جديدة بعيدة المدى، أصبحت الحاجة ملحة إلى استثمارات جديدة لتعزيز دفاعات بريطانيا ضد الهجمات المحتملة، بينما لم تعد حاملتا الطائرات البريطانيتان الجديدتان بنفس القدر من الأهمية؛ إذ ترتكز أهميتهما على العمليات خارج منطقة حلف شمال الأطلسي.
كيف ستتم مراجعة خطة الدفاع الاستراتيجية؟
يشارك في عملية مراجعة الدفاع الاستراتيجية “مراجعون خارجيون” (External Reviewers) -ليسوا جزءاً من الحكومة أو وزارة الدفاع البريطانية- بما يشمل مسؤولين حكوميين سابقين، وموظفي حلف شمال الأطلسي، وخبراء عسكريين. ويتمثل دورهم الرئيسي في توفير منظور مستقل ومتنوع لاستراتيجية الدفاع البريطانية. ويشير تعيين المراجعين الخارجيين إلى أن التركيز في عملية المراجعة سوف ينصب بشكل أكبر على الجوانب العملية للأمن الأوروبي في ظل سياسة الولايات المتحدة تجاه أوروبا والتي أصبحت متقلبة نتيجة تباين سياسات الإدارات الأمريكية.
من المفترض أن تلتزم توصيات المراجعة بقابليتها للتنفيذ ضمن الموارد المتاحة للوزارة وضمن التزام الحكومة بزيادة الإنفاق الدفاعي من 2.3% إلى 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي. وتواجه بريطانيا مشاكل ترتبط بالمشتريات الدفاعية، رغم أن الإنفاق الدفاعي للمملكة المتحدة من بين أعلى المعدلات في أوروبا. وتلزم بريطانيـا شركاء الصناعة بمواصفات باهظة الثمن، كما يستغرق تسليمها سنوات مما أدى في كثير من الأحيان إلى تحول تلك المشتريات وقت التسليم إلى معدات ذات مواصفات قديمة غير ملائمة للاحتياجات الجديدة.
تُجرى المراجعة في وقت تمر فيه بريطانيـا بأزمة مالية محلية شديدة فضلا عن المخاطر الدولية المتزايدة، وهو الأمر الذي يجعل الإصدار النهائي للمراجعة -المتوقع في النصف الأول من العام القادم- عرضة لمخاطر عدم ملائمة الأهداف للموارد المتاحة وكذلك تجاوز الأحداث الإقليمية والدولية للبيان النهائي للمراجعة. والأهم من ذلك، فإن العديد من استنتاجات وتوصيات المراجعة ستكون مرتبطة بنتائج الانتخابات الأمريكية إذ تتطلع واشنطن إلى إعادة تركيز قواتها في المحيط الهادئ وتقليل تواجدها في أوروبا مما يفرض سيناريوهين مختلفين أمام فريق المراجعة: الأول تدريجي وسلس في حال فوز كاميلا هاريس، والآخر متسرع ومعقد في حال فوز دونالد ترامب.