الأخبار

“انقلاب ماكرون”.. ما هي قصة الأزمة السياسية الأخطر في فرنسا، ولماذا تتدخل لوبان لحلها؟

تشهد فرنسا أزمة سياسية شديدة، مع تزايد الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت منذ يوم السبت 7 سبتمبر/أيلول 2024، تنديدًا بقرار الرئيس إيمانويل ماكرون تعيين ميشيل بارنييه، المنتمي إلى تيار اليمين، رئيسًا للوزراء. وتأتي تلك الاحتجاجات في ظل اتهامات حادة من أحزاب اليسار لماكرون بـ”سرقة” نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، حيث حقق تحالف اليسار أكبر عدد من الأصوات، رغم عدم حصوله على أغلبية مطلقة. ويعكس الغضب الشعبي المتزايد تصاعد التوترات بين الحكومة والمعارضة، ما ينذر بتفاقم الاضطرابات السياسية التي تشهدها البلاد.

عيّن ماكرون، ميشيل بارنييه، رئيساً للوزراء. وينحدر الأخير من معسكر اليمين، رغم حصول “الجبهة الشعبية الجديدة” على أكبر عدد من المقاعد (192) خلال الانتخابات التشريعية المبكرة التي نظمت في 30 يونيو/ حزيران و7 يوليو/تموز الماضيين.

وجاءت المظاهرات استجابة لدعوة أطلقتها الجبهة الشعبية الجديدة والاتحادات الطلابية إلى تعبئة واسعة النطاق يوم السبت الماضي، ضد ما سموه “انقلاب إيمانويل ماكرون” و”إنكار الديمقراطية” بعد رفض الرئيس الفرنسي الاعتراف واحترام نتائج تصويت الشعب خلال الانتخابات التشريعية التي منحت ائتلاف اليسار المركز الأول.

ووفقا لبيانات وزارة الداخلية الفرنسية، تظاهر ضد قرار ماكرون، أكثر من 26 ألف شخص في باريس، بينما تجاوز العدد الإجمالي في أنحاء البلاد 110 آلاف متظاهر. بينما قالت رئيسة الكتلة النيابية لحزب “فرنسا الأبيّة” (أقصى اليسار) ماتيلد بانو، عبر منصة إكس، إن عدد المتظاهرين في باريس بلغ 160 ألفا وفي البلاد 300 ألفا.


من هو “ميشيل بارنييه” رئيس الوزراء فرنسا الجديد؟

جاء إعلان ميشيل بارنييه رئيساً للوزراء، بعد دورة غير مسبوقة من المشاورات أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع القوى السياسية الرئيسية، استمرت نحو شهرين بعد الانتخابات التشريعية المبكرة، التي فازت فيها الجبهة الشعبية الجديدة (تحالف أحزاب اليسار) من دون تحقيق الغالبية في البرلمان.

ليصبح بارنييه بذلك أكبر من تولى هذا المنصب في الجمهورية الخامسة التي تأسست عام 1958. ويأتي هذا التعيين بعد انتهاء ولاية رئيس الوزراء السابق غابرييل أتال، الذي كان يبلغ من العمر 35 عامًا، بفارق يقارب ال40 عامًا بين الرجلين، حيث استمرت ولاية أتال لمدة 8 أشهر فقط.

بارنييه، الذي يُعرف في الأوساط الفرنسية باسم “السيد بريكست”، نسبةً لدوره البارز كمفاوض رئيسي للاتحاد الأوروبي في ملف خروج بريطانيا من الاتحاد (بريكست)، يحمل خبرة سياسية تمتد لأكثر من أربعة عقود. فخلال مسيرته، تولى العديد من المناصب البارزة سواء على المستوى المحلي في فرنسا أو داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ومن بين تلك المناصب: وزير الخارجية، وزير الزراعة، ووزير البيئة في الحكومة الفرنسية. كما شغل مرتين منصب مفوض أوروبي وكان مستشارًا مقربًا لرئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين.

وفي عام 2021، أعلن بارنييه عن ترشحه للانتخابات الرئاسية في فرنسا، إلا أنه لم يتمكن من حشد الدعم الكافي داخل حزبه اليميني “الجمهوريين” لمواجهة ماكرون في الانتخابات الرئاسية عام 2022، في حملة اتجه فيها أكثر نحو اليمين واقترح وقف الهجرة. من بعده ابتعد بارنييه لفترة عن المشهد السياسي الفرنسي .

ورغم إخفاقاته السابقة، يعود بارنييه اليوم إلى الساحة السياسية من الباب الواسع بعد تعيينه رئيساً للوزراء، لكنه أمام مهمة شديدة الصعوبة إذ سيتعين عليه تشكيل حكومة قادرة على الإفلات من مذكرات حجب الثقة في البرلمان وإنهاء أخطر أزمة سياسية في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، في ظل جمعية وطنية منقسمة إلى ثلاث كتل سياسية كبيرة، حيث لا يستطيع أي منها تشكيل أغلبية واضحة.

ميشيل بارنييه - shutterstock

لكن بارنييه أعرب في أول مقابلة تلفزيونية له بعد تعيينه عن عزمه فتح أبواب حكومته أمام الأطياف السياسية كافة، بما في ذلك اليسار. وقال بارنييه: “نحتاج إلى أن نفتح الباب… أمام كل من يريدون المشاركة”، في إشارة إلى توجهه نحو توسيع قاعدة المشاركة السياسية في حكومته.


هل تدخل فرنسا في أزمة داخلية خطيرة بعد اختيار بارنييه رئيسا للوزراء؟

رغم ذلك، منذ تعيينه، اندلعت موجة من الاحتجاجات الحاشدة التي اجتاحت شوارع فرنسا منذ يوم السبت الماضي. انطلقت أكثر من 150 مسيرة في جميع أنحاء البلاد تنديدًا بتعيينه. و وفقًا للمنظمين، تجمع حوالي 160 ألف شخص في باريس وحدها، فيما وصل العدد الإجمالي للمتظاهرين في جميع أنحاء البلاد إلى 300 ألف شخص.

وتشهد البلاد استنفارا أمنيا كبيرا خوفا من تطور الأوضاع وخروجها عن السيطرة أو وقوع اشتباكات مع عناصر الشرطة. هذه الاحتجاجات هي رد فعل على قرار الرئيس إيمانويل ماكرون بتعيين بارنييه أحد قدامى اليمين الفرنسي لمنصب رئيس الوزراء، وهو ما اعتبره معارضوه انتهاكًا للتقاليد السياسية والديمقراطية الفرنسية.

فوفقًا للدستور الفرنسي، يملك الرئيس صلاحية تعيين رئيس وزراء يختاره بنفسه، ولكن وفقًا للتقاليد السياسية المتبعة، يتم اختيار رئيس الوزراء من الحزب أو التحالف الذي حصل على أكبر عدد من الأصوات.

لذلك، انتقد زعيم حزب “فرنسا الأبية” اليساري، جان لوك ميلانشون، بشدة تعيين الرئيس إيمانويل ماكرون لميشال بارنييه رئيسًا للوزراء. وخلال مقطع فيديو نُشر على منصات التواصل الاجتماعي، وصف ميلانشون هذا القرار بأنه “انقلاب القوة”، ودعا إلى “أقوى تعبئة ممكنة” للاحتجاج ضده. وأشار إلى أن تعيين بارنييه هو تجاهل واضح لإرادة الناخبين الفرنسيين، بعد رفض ماكرون اختيار مرشحة ائتلاف اليسار، لوسي كاستيتس، الخبيرة الاقتصادية البالغة 37 عاماً، التي حصلت على دعم أكبر عدد من الناخبين في الانتخابات التشريعية الأخيرة.

بينما جاء رد الحزب الاشتراكي سريعًا، حيث أصدر بيانًا صحفيًا يتهم فيه ماكرون بـأنه ” يدوس على أصوات الشعب الفرنسي”. وصرح الحزب بأنه سيفرض رقابة مشددة على حكومة بارنييه، معتبرًا أن هذا التعيين يهدد الديمقراطية الفرنسية. في الوقت نفسه، وصف النائب جيروم لوغافر من حزب “فرنسا الأبية” تعيين بارنييه بأنه يعكس “اختيار مارين لوبان بشكل غير مباشر”. وفي تغريدة عبر منصة “إكس”، أشار لوغافر إلى أن بارنييه كان دائمًا مقربًا من برنامج حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، خاصة فيما يتعلق بسياسات الهجرة، معتبرًا أن فرنسا الآن تواجه حكومة “ماكرون-لوبان”.


دعت زعيمة أقصى اليمين الفرنسي مارين لوبان، اليوم الأحد، الرئيس إيمانويل ماكرون إلى إجراء استفتاء بهدف وضع حد للأزمة السياسية في فرنسا.

و قد حثّت زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي، مارين لوبان، اليوم الأحد، الرئيس إيمانويل ماكرون على إجراء استفتاء على قضايا رئيسية؛ مثل الهجرة والأمن، مشيرة إلى أن سماع رأي الفرنسيين بشأن هذه المسائل قد يساعد في الخروج من المأزق السياسي.

في المقابل أشارت لوبان إلى أنها ستراقب من كثب، وحذّرت من أنه “إذا تم نسيان الفرنسيين أو إساءة معاملتهم مجدداً خلال الأسابيع المقبلة، فلن نتردد في حجب الثقة عن الحكومة”.

و خلال حديثها للصحفيين، قالت لوبان إنها تتوقع أن تجري فرنسا انتخابات تشريعية جديدة “خلال عام”، معتبرة أن “ذلك أمر جيد لأنني أعتقد أن فرنسا بحاجة إلى أغلبية واضحة”.


أزمة تشكيل الحكومة الفرنسية

بينما، وصف أوليفييه فور، السكرتير الوطني للحزب الاشتراكي، الوضع السياسي الحالي عبر منصة “إكس” بأنه يمثل “إنكارًا ديمقراطيًا بلغ ذروته”، معربًا عن استغرابه من تعيين رئيس وزراء من حزب جاء في المركز الرابع في الانتخابات التشريعية ولم يشارك حتى في الجبهة الجمهورية ضد اليمين المتطرف. واعتبر فور أن فرنسا الآن تواجه “أزمة نظام” حقيقية، تعكس عدم التزام القيادة الحالية بالقيم الديمقراطية المتعارف عليها.

في هذا السياق، يرى محللون أن فرنسا ستواجه فترة من عدم الاستقرار السياسي، إذ يرون أن بارنييه، المنتمي إلى يمين الوسط، ضعيفًا سياسيًا، خاصة في ظل اعتماده على دعم حزب “التجمع الوطني” بزعامة مارين لوبان، المعروف بمواقفه المناهضة للاتحاد الأوروبي والهجرة. ويعتبر هذا الدعم غير المستقر و قد يضعف موقف بارنييه في مواجهة المعارضة الواسعة، ويزيد من احتمالات حدوث تصدعات داخل الحكومة.

ورغم أن استطلاع الرأي، الذي أجراه معهد إيفوب لصالح صحيفة “جورنال دو ديمانش”، أن يرى أغلبية المشاركين فيه أن بارنييه، كفء (62%)، ومنفتح على الحوار (61%)، ومحبوب (60%). إلا أن 74% من المشاركين في الاستطلاع يعتقدون أنه لن يستمر طويلاً في منصبه. ومع تصاعد التوترات بين الحكومة والمعارضة، وتهديدات بحجب الثقة، تبدو فرنسا مقبلة على أزمة سياسية خطيرة قد تتفاقم في الأسابيع القادمة.

تأتي هذه الاضطرابات نتيجة خطوة جريئة اتخذها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل حوالي شهرين بحل الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة، في محاولة لتعزيز نفوذ فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي والقضاء على التطرف السياسي في الداخل، وفقاً لفرانس برس.

هذه الخطوة جاءت بعد الفوز التاريخي لليمين المتطرف الفرنسي في الانتخابات الأوروبية، والذي حقق فارقًا كبيرًا عن معسكر ماكرون الرئاسي. إذ شلكت نتائج الانتخابات ضربة قاسية لماكرون، الذي وصل إلى السلطة في عام 2017 وأعيد انتخابه رئيسًا لفرنسا في 2022. رغم أن ولايته الحالية تستمر حتى عام 2027، إلا أن هذا التراجع الانتخابي يهدد طموحاته السياسية على الصعيدين الوطني والدولي، خصوصًا بعد فشله في السيطرة على البرلمان. ولا يستطيع ماكرون الترشح مجددًا للرئاسة بعد انتهاء ولايته.

و حل الجمعية الوطنية يُعدّ أداة دستورية مهمة بيد الرئيس، تُمكنه من تجاوز الأزمات السياسية والمؤسسية، خاصة عندما يحدث تباين بين الأغلبيتين الرئاسية والبرلمانية. ويمكن اعتبار هذا الحل أيضًا نوعًا من الاستفتاء الضمني لقياس ثقة الناخبين. لكن رغم هذا، فإن خطوة ماكرون لم تؤتِ ثمارها هذه المرة، حيث زادت من حدة الأزمة السياسية بدلاً من حلها.

هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها حل الجمعية الوطنية في فرنسا، إذ حدث ذلك خمس مرات في التاريخ الحديث. في عام 1962، حل الرئيس شارل ديغول الجمعية ما أدى إلى فوز الديغوليين بالأغلبية المطلقة. وفي عام 1968، قام ديغول بحل الجمعية مرة أخرى عقب أحداث مايو 1968، مما أدى إلى فوز الأغلبية الرئاسية. في عام 1981، حل فرانسوا ميتران الجمعية لضمان أغلبية برلمانية داعمة، ثم كرر هذا الحل في عام 1988. وفي عام 1997، حل الرئيس جاك شيراك الجمعية لتعزيز أغلبيته، ولكن الخطوة أدت إلى فوز تحالف اليسار ودخول فرنسا في “حالة تعايش” بين الرئيس والبرلمان.

ويقصد بمصطلح “التعايش” (Cohabitation)في النظام السياسي الفرنسي بالوضع الذي يضطر فيه رئيس الجمهورية إلى تعيين رئيس وزراء من حزب الأغلبية البرلمانية، مما يضع الرئيس في موقف سياسي معقد. ومع عدم حصول أي كتلة على أغلبية واضحة في البرلمان بعد الانتخابات الأخيرة، تحولت مغامرة ماكرون من محاولة لإحكام قبضته على الأمور إلى أزمة سياسية تهدد الاستقرار السياسي في البلاد.