الأخبار

40 عاماً من حروب الظل.. محطات في تاريخ الصراع الاستخباراتي بين حزب الله و”إسرائيل”

منذ أكثر من أربعين عاماً، تدور رحى حرب دامية وعنيفة بين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وحزب الله اللبناني، وجه فيها الأخير ضربات مؤلمة لدولة الاحتلال على مدار عقود داخل لبنان وخارجه، حتى دحره عن البلاد وأجبره على الانسحاب عام 2000. فيما تعرض الحزب أيضاً لضربات مؤلمة استهدفت قياداته وقدراته، كان أكبرها وآخرها تفجيرات “البيجر” و”اللاسلكي” في منتصف أيلول/سبتمبر 2024 خلال معركة “طوفان الأقصى”.


تفجيرات مقر القيادة العامة الإسرائيلي في مدينة صور

كانت إحدى الهزائم الأولى التي مُنيت بها “إسرائيل” على يد حزب الله في نوفمبر/تشرين الثاني 1982، أي بعد خمسة أشهر من غزو قواتها لبنان بهدف تدمير منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت متمركزة هناك. وعندما أُجبِر مقاتلو منظمة التحرير الفلسطينية المسلحون على مغادرة بيروت، بدا الأمر وكأن “إسرائيل” قد حققت نصراً كبيراً.

لكن ما حصل هو انفجار ضخم لم تتخيله “إسرائيل”، دمر مقر جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بيت) في مدينة صور الساحلية. ولقي 91  جندياً وضابطاً إسرائيلياً حتفهم في الانفجار من بينهم ضباط في جهاز الشاباك، حيث ألقت دولة الاحتلال باللوم في وقوع الانفجاز آنذاك على “تسرب غاز” للحفاظ على صورتها. لكن في واقع الأمر، كانت هذه عملية تفجير سيارة مفخخة ضخمة، من بين أولى العمليات من نوعها، التي نفذتها خلايا شيعية انضمت لاحقاً لحزب الله اللبناني في جنوب لبنان.

تقول صحيفة “الغارديان” البريطانية، إن أولئك الذين خططوا للتفجير -الذي اعتبر “أسوأ الخسائر التي لحقت بالجيش الإسرائيلي” حتى ذلك الحين- انضموا إلى حزب الله، الذي تأسس في الصيف التالي بإشراف ودعم من النظام الثوري الإيراني الجديد الذي وصل إلى السلطة في طهران في عام 1979.

ونجح نفس المقاتلين في العام التالي بتفجير مقر جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي في صور مرة أخرى في نوفمبر/تشرين الثاني 1983، مما أسفر عن مقتل 28 إسرائيلياً و32 سجيناً لبنانياً. كما تسببوا في سقوط مئات القتلى الأميركيين والفرنسيين في هجمات انتحارية ضخمة أخرى عجزت الأجهزة الإسرائيلية عن منعها.


وهكذا بدأت واحدة من أشرس الصراعات السرية في العقود الأخيرة في أي مكان من العالم. لقد خاض الجيش الإسرائيلي حربا ضد حزب الله حتى اضطر إلى الانسحاب من لبنان في عام 1999 ومرة ​​أخرى خلال حرب قصيرة في عام 2006، ولكن أجهزته الأمنية السرية لم تحظ بأي راحة.


اغتيال عماد مغنية

لقد ترك النقص الحاد في الاستخبارات البشرية الإسرائيليين في الظلام بشأن خطط حزب الله طوال معظم الثمانينيات. وظل مكان وجود شخص بعينه، وهو شاب يدعى عماد مغنية، الذي خطط  لخطف رهائن غربيين في بيروت، وتفجير مقر المارينز عام 1983 الذي أسفر عن مقتل 240 من مشاة البحرية الأميركية في العاصمة اللبنانية، غير واضح.

وكانت هناك عدة محاولات لاغتيال عماد مغنية من قبل “إسرائيل”، لكن الأمر استغرق أكثر من عشرين عامًا حتى أدرك الإسرائيليون هدفهم عندما اغتالوه بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.


اغتيال عباس موسوي وتفجيرات الأرجنتين

وكانت أميركا الجنوبية ساحة المعركة الرئيسية في أوائل التسعينيات بين حزب الله و”إسرائيل”، حيث تمكن من تجنيد الدعم من بين الجاليات الشيعية اللبنانية الكبيرة في الخارج منذ الثمانينيات.

وعندما اغتالت طائرات الهليكوبتر الإسرائيلية السيد عباس الموسوي، الزعيم الجديد لحزب الله، في جنوب لبنان في فبراير/شباط 1992، سعت المنظمة الإسلامية إلى الانتقام في الأرجنتين.

أولاً، تم تفجير السفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس، مما أسفر عن مقتل 29 شخصًا، ثم في عام 1994، قتل انتحاري 85 شخصًا في مركز مجتمعي يهودي في العاصمة الأرجنتينية، وحمل المحققون حينها حزب الله مسؤولية الهجومين .

كما برزت أميركا الجنوبية كمركز رئيسي لتمويل حزب الله، مع مجموعة واسعة من الأنشطة القانونية وغير القانونية التي يديرها أنصار الحزب هناك والتي تولد أموالاً ضخمة للمنظمة كما تقول صحيفة “الغارديان”. وكان الحجم الهائل للعمليات، التي غالباً ما تُدار من مواقع نائية حيث كان حضور أجهزة الأمن المحلية محدوداً أو كانت معرفتها محدودة، سبباً في إعاقة جهود “إسرائيل” لاستهدافها.



عمليات حزب الله في أذربيجان وبلغاريا

وعلى مدى العقود الأخيرة، أصبحت أوروبا مسرحا آخر لحرب الظل بين “إسرائيل” وحزب الله. ومع سعي حزب الله إلى توسيع عملياته اللوجستية في القارة من خلال عشرات الشركات، حاولت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية عرقلة جهود الجماعة. وقد حققت سلسلة من العمليات غير البارزة بعض النجاح، ويرجع الكثير منها إلى المساعدة السرية من جانب أجهزة الأمن المحلية.

كما أحبطت محاولة من جانب حزب الله للانتقام لمقتل مغنية بهجوم على السفارة الإسرائيلية في أذربيجان. ولكن بعد ذلك في يوليو/تموز 2012، أسفر تفجير حافلة انتحاري عن مقتل خمسة إسرائيليين وسائق في منتجع بورغاس على البحر الأسود في بلغاريا. وقد وجد المحققون أدلة على وجود صلات بحزب الله.


عمليات سرية لحزب الله من بانكوك إلى دلهي وقبرص

وبحلول ذلك الوقت، كانت المعركة مستعرة في مختلف أنحاء العالم. ففي عام 2012، حدد محللو الاستخبارات في الولايات المتحدة مؤامرات حزب الله ضد أهداف إسرائيلية، بما في ذلك اثنتان في بانكوك وواحدة في كل من دلهي وتبليسي ومومباسا وقبرص في غضون ستة أشهر فقط. وأصيب دبلوماسي إسرائيلي في دلهي خلال سلسلة من الهجمات بسيارات مفخخة مغناطيسية في عملية معقدة شارك فيها عملاء في تايلاند والهند، والعديد منهم مرتبطون بإيران وحزب الله، كما تقول صحيفة الغارديان.

وكانت أميركا الشمالية في المقام الأول مركزاً لوجستياً لحزب الله، حيث كانت عمليات التمويل الكبرى تشكل أولوية. ويُزعم أن هذه العمليات سمحت للمتعاطفين مع حزب الله بإرسال مئات الملايين من الدولارات إلى حزب الله، وهو ما يشكل مصدراً مهماً لتمويل ميزانيته الضخمة للرعاية الاجتماعية فضلاً عن العمليات العسكرية.

في عام 2011، زعم المسؤولون الأميركيون أن عائدات مبيعات السيارات والاتجار بالمخدرات تم تصريفها إلى لبنان من خلال قنوات غسيل الأموال التي تسيطر عليها حزب الله. وفي العام الماضي 2023، تم إدراج أحد كبار جامعي الأعمال الفنية على قائمة عقوبات وزارة الخزانة الأميركية ووجهت إليه اتهامات في الولايات المتحدة بسبب مزاعم بأنه يستخدم مجموعته، التي تضم روائع لبابلو بيكاسو وأنطوني جورملي وآندي وارهول، لغسيل الأموال لصالح حزب الله.

ثم كانت هناك حرب سرية متبادلة في مكان أقرب إلى الوطن. ففي عام 2023، وصف ديفيد برنيا، مدير الموساد، جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلي الرئيسي، 27 مؤامرة ضد الإسرائيليين بما في ذلك في جورجيا وقبرص واليونان وألمانيا. وكان عملاء حزب الله نشطين في العراق واليمن وسوريا، حيث انتشر الآلاف من مقاتليه خلال الحروب الأهلية هناك.


هجمات “البيجر” و”اللاسلكي” واغتيال قيادات حزب الله

وإذا كانت هناك انتصارات وخسائر على الجانبين على مدى العقود، فإن الميزان يبدو أنه مال بشكل كبير -حتى الآن- لصالح “إسرائيل” في الأشهر الأخيرة، كما تقول الصحيفة البريطانية.

وقد تحدث مسؤولون إسرائيليون عن محاولات من جانب عملاء إيرانيين ــ أو من حزب الله ــ لتنفيذ عمليات اغتيال في إسرائيل، ولكن لم يكتب لأي من هذه المحاولات من النجاح.


ويعتقد أن هجمات الأسبوع الماضي باستخدام أجهزة النداء “البيجر” واللاسلكي، والتي أسفرت عن مقتل 42 شخصا وإصابة نحو ثلاثة آلاف آخرين، نفذتها الموساد وأجهزة إسرائيلية أخرى، وقد اعتبرها المحللون الإسرائيليون انتصارا ساحقاً في الصراع السري الطويل بين حزب الله وتل أبيب.

وفي الوقت نفسه، تعرضت القيادة العليا لحزب الله لسلسلة من الاغتيالات الإسرائيلية لمسؤولين عسكريين كبار، وهو ما يشير إلى تدفق المعلومات الاستخباراتية الداخلية الدقيقة في الوقت المناسب، والتي من المرجح أنها مستمدة من مزيج من الاتصالات التي تم اعتراضها والمراقبة والعملاء داخل صفوف حزب الله.

وقال ماجنوس رانستورب، وهو محلل مختص بحزب الله في جامعة الدفاع السويدية: “إن هذا انقلاب استخباراتي ضخم، الإسرائيليون يستهدفون المستويات العليا والمتوسطة وهذا يترك حزب الله أعمى وأصم وأبكم” على حد تعبيره.

وتظهر الاغتيالات المستهدفة أيضًا أن الموساد والوكالات الأخرى تتمتع بذاكرة مؤسسية طويلة. حيث كان فؤاد شكر، رئيس أركان حزب الله الذي اغتيل على يد إسرائيل في يوليو/تموز، وإبراهيم عقيل، الذي اغتيل الأسبوع الماضي، من الأعضاء المهمين في التسلسل الهرمي العسكري الحالي لحزب الله، وكان من الممكن أن يلعبا دوراً رئيسياً في أي حرب شاملة قادمة. وكان كلاهما أيضاً من الأعضاء المؤسسين لحزب الله وجزءاً من الشبكة المسؤولة عن تفجيرات “صور” بين عامي 1982 و1983.